تعثر المشاريع الحكومية يعطي صورة مباشرة لوجود إشكالات في عمليات الصرف من المخصصات المالية المعتمدة لها، والتي تتمثل في سوء الإدارة والإهمال أو في الفساد المالي والإداري وضعف الرقابة
لا شك أن إعلان المملكة لأضخم موازنة في تاريخها، أثار اهتمام كل متخصص وكاتب ومواطن، حيث إنها تعبر عن برنامج عمل السلطة التنفيذية للسنة المقبلة (2013م)، ولا يخفى أن يكون لمثل هذه الموازنة من آثار اقتصادية واجتماعية، وخاصةً أنها ركزت على مجالات حيوية تهم المواطن في المقام الأول وهي التعليم والصحة والشئون الاجتماعية والبلديات والمواصلات.
ومن هذا المنطلق ركز بعض المحللين الاقتصاديين على أهمية انعكاس الموازنة على تحسين مستوى المعيشة والدخل للمواطن، بالإضافة إلى تحسين مستوى الخدمات العامة (الصحة والتعليم..إلخ)، وبعض آخر ناقش أهمية الموازنة من حيث تأثيرها الإيجابي على الاقتصاد السعودي والمكانة المرموقة للمملكة في اقتصادات العالم.
وعلى الرغم من أهمية التحليلات الاقتصادية للموازنة العامة للدولة، إلا أن أغلبها لم يأت بشيء جديد! وحتى التحليلات المالية للموازنة تكاد تكون سطحية حيث تم احتساب الزيادة النسبية للإيرادات والنفقات عن الأعوام السابقة بشكل إجمالي ودون تفاصيل، كما أن تحسين مستوى المعيشة والخدمات العامة، هو أهداف تنموية قد تضمنتها الخطط الخمسية للدولة مسبقاً ومنذ سنوات عديدة، لذا كان الأجدر أن نحلل ونتساءل ما الذي تحقق من هذه الخطط، وخاصةً أن خطة التنمية التاسعة قد شارفت على الانتهاء؟!.
في نهاية كل سنة مالية، تقوم الجهات الحكومية بإعداد تقرير يتضمن ما تم إنجازه خلال الخطة التشغيلية السنوية يرفع إلى السلطة التشريعية وهي عبارة عن خطة مرحلية للخطة الإستراتجية للتنمية، بالإضافة إلى إيضاح أهم الصعوبات والمعوقات التي تواجه الجهة في تنفيذ خططها.
وعند الاطلاع على بعض هذه التقارير في بعض الجهات الحكومية وكذلك الحسابات الختامية لها، نجد علاقة محدودة جداً بين الميزانية المخصصة لهذه الجهات والخطة التشغيلية لها، وليس هذا فحسب، بل نجد أيضاً إنجازا محدودا جداً نحو تحقيق الأهداف التنموية، هذا إذا كانت محددة بشكل كمي وبالأرقام وقابلة للقياس، وإلا فإن معظم الأهداف تكون في الغالب إنشائية، ويصعب التأكد من إنجازها على الشكل المطلوب، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن : علاقة الميزانية العامة بخطط التنمية؟ ، وعن كيفية تنفيذ الميزانية والرقابة عليها؟.
في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن أسلوب إعداد الميزانية في المملكة ما يزال يتبع أسلوب ميزانية البنود، وعلى الرغم من بساطة هذا المنهج إلا أنه يعتبر بعيد الارتباط عن التخطيط الاقتصادي، ومع ذلك أشارت تعليمات الميزانية في المملكة إلى ضرورة إعداد المشروعات المقترحة في الميزانية طبقاً لما هو وارد في خطة التنمية الموافق عليها من قبل مجلس الوزراء، وهذا يتعلق فقط بالمشاريع الإنشائية مثل بناء المستشفيات والمدارس ، أو البرامج الحكومية مثل برامج تطوير التعليم وبرامج التطعيم ومكافحة بعض الأمراض، أما بالنسبة للأهداف الأخرى مثل تخفيض عدد الوفيات وزيادة عدد الأطباء أو تحسين جودة التعليم أو تخفيض البطالة ومكافحة الفقر، فلا يتم ربطها بالميزانية على أغلب الظن.
وعلى هذا الأساس تقوم وزارة الاقتصاد والتخطيط بتقييم تنفيذ الخطط التنموية وتقييم الوضع المالي للمشاريع، وتحديد ما إذا كان هناك أي قصور مالي في المخصصات ومقارنة ذلك بالمستهدف، وذلك عن طريق الحسابات الختامية للجهات الحكومية، وتواجه الوزارة عدة صعوبات في سبيل تحقيق ذلك، تتمثل في تأخر ورود الحسابات بعد مضي أربعة أشهر من انتهاء السنة المالية كما أنها لم تستلم إلى وقت قريب الحساب الختامي للدولة، بالإضافة إلى أن الخطط التنموية تعد على شكل برامج في القطاعات التنموية المختلفة، والاعتمادات المالية توزع على أساس الجهات الإدارية المختلفة، ناهيك عن عدم إمكانية عمل مقارنات دولية بين التقارير المالية الحكومية والدول الأخرى.
وفي المقابل أيضاً، تظهر لنا إشكالية أخرى غير ظاهرة تتمثل في النظرة من قبل القائمين على إعداد الميزانية في وزارة المالية إلى القائمين بشؤون التخطيط بأنهم يقدرون المبالغ دون حدود من أجل الوصول إلى أهدافهم، ويعتمدون على المثاليات والنظريات غير الواقعية لكونهم متخصصين في علم الاقتصاد، وهذا ما قد يفسر لنا اختلاف المبالغ المرصودة في خطة التنمية والاعتمادات المالية المخصصة في الميزانية.
أما فيما يتعلق بتنفيذ الميزانية من قبل الجهات الحكومية، فأعتقد أن تعثر المشاريع الحكومية يعطي صورة مباشرة لوجود إشكالات في عمليات الصرف من المخصصات المالية المعتمدة لها، والتي تتمثل إما في سوء الإدارة والإهمال أو في الفساد المالي والإداري وضعف الرقابة.
فالهدف الرئيس من مراقبة تنفيذ الميزانية هو التأكد من التزام الجهات لحكومية بالأنظمة والقوانين من ناحية، وبالسياسة العامة المقررة من ناحية أخرى، وهناك عدة أنواع من الرقابة تقوم بها جهات مختلفة، وهي الرقابة الداخلية، والرقابة المسبقة، والرقابة اللاحقة.
وعلى الرغم من تعدد الجهات الرقابية، إلا أن الرقابة على الحسابات الختامية للجهات الحكومية وكذلك الرقابة على تقارير تنفيذ خطط التنمية تكاد تكون محدودة للأسف الشديد.
فالرقابة بأنواعها الثلاثة تركز على الشكليات النظامية والقانونية فقط ولا تعلم ما الذي يجري خلف الكواليس، وأبسط مثال على ذلك: أن الرقابة تركز على أهمية وجود مستند الصرف لإجازته رقابياً ولكنها لا تعلم هل هذا المستند حقيقي أم مزور.
وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف الهندي السيد كواتيليا: قد يكون من الممكن أن تعرف طرق الطيور الطائرة في السـماء، ولكن لن تعرف طرق موظفي الحكومة لإخفاء أو تظليل الدخل.. كما هو مستحيل أن تعرف ما إذا كانت السمكة تشرب من الماء أثناء حركتها بداخله، فإنه من الصعوبة معرفة الاستخدام السيئ والتلاعب بأموال الدولة من قبل الموظفين الحكوميين، وقد حان الوقت لتطوير تقنيات الرقابة وآلياتها لكشف الاستخدام السيئ والتلاعب بالمال العام، وتسليط الضوء على الأنظمة والأساليب الإدارية في الجهات الحكومية.