إن كانت الخصوصيات الجغرافية قد ساعدت إيران على تبرير تدخلها في لبنان ووقوفها الكامل خلف حزب الله، فما نوع الذرائع التي تسوغ تدخلها السافر في الشأن الداخلي لليمن؟

تمور بلدان الربيع العربي بفيض جارف من المشكلات، وتهددها ريح عاصفة، منها ما يرجع لعوامل سياسية واقتصادية داخلية ركمتها حقب الاستبداد وبؤره العالقة ضمن معادلات الواقع، ومنها ما تضخه مراكز الصراع الدولي والإقليمي من أجندات وسباقات نفوذ.
ما يثير الغرابة، تعاضد وتضافر مشكلات الداخل مع أجندات الخارج واستحالة الفصل بينهما رغم اختلاف التوجهات وتناقض المصالح.
تقتضي البداهة اعتبار الصراعات الداخلية نتاجاً لظروف التخلف التي مرت بها هذه البلدان، ومحصلة طبيعية لسوء الإدارة وهيمنة مركز القوى على السلطة والثروة والقوة. زد على ذلك ضعف الوازع الوطني المفترض تجذره في سياق المناهج التربوية والمحددات الثقافية والإعلامية.
وقد يكون مرد مشكلات الداخل ناجما عن اختلالات قيمية تتغذى على الانقسامات المذهبية والطائفية والمناطقية والسلالية، لكن على أي أساس قيمي أو أخلاقي تضع حكومات البلدان المتقدمة أجنداتها؟
وبأي الوسائل يتم صهر الفوارق الجمة بين ما يرمز إليه التقدم من دلالات وما يحمله التخلف من معانٍ؟
وفي واقع الحال؛ فإن مشكلات الداخل تعبر عن نفسها عبر مكونات سياسية واجتماعية تعاني من ضعف قيم الانتماء، ولهذا تضع نفسها رهن استخدامات الخارج، والأخير لا يبحث فيها عن أطراف حليفة مؤهلة للتعبير عن الهوية المشتركة لمواطني هذا القطر أو ذاك، قدر اهتمامه بها كأدوات سهلة التطويع تبعاً لحاجاته ومطامعه. ذلك أن سباقات النفوذ الإقليمي والدولي تقوم على تشجيع الهويات الصغرى – ما دون الوطني – لتغدو عواصم الربيع العربي مفرغة من القيم والروابط الجامعة، إيذانا بتحولها إلى ساحات صراع بالوكالة!!
انظر – مثلا – كيف صارت ثورة التغيير في اليمن مسرح صراع خارجي لا تقتصر أطرافه على القوى الدولية الكبرى، وإنما يمتد الى نزعات تراجيدية تنم عن لاعبين يدفعهم الحنين لاستعادة أمجاد غاربة تحاكي رجع صدى الإمبراطوريات التي كنا نحسبها انقرضت!
كنت أسأل وما زلت: إن كانت الخصوصيات الجغرافية قد ساعدت إيران على تبرير تدخلها في لبنان ووقوفها الكامل خلف حزب الله، فما نوع الذرائع التي تسوغ تدخلها السافر في الشأن الداخلي لليمن؟ وما طبيعة حيثياتها المقبولة أو المعقولة لتبني جماعات السلاح في هذا البلد؟ وهل ينحصر دورها في حدود الداخل وتداعياته المذهبية والسلالية؟ أم إنها تبني منصات إطلاق شرورها في مكان وترمي أهدافها نحو أماكن أخرى، ليكون لسان حالها قول الشاعر:
(إذا جئت فانظر شطر عينيك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر)؟
على أن تساؤلاتنا السالفة ما تكاد تستقر عند محطة من محطات التدخل الإيراني، حتى تستوقفنا أسئلة جديدة عن تدفقات السلاح القادم من بعض المصانع والموانئ التركية وبتلك الكميات الضخمة والتقنيات المحظورة والمحرمة، ويندرج في عدادها أسلحة كاتمة الصوت وأخرى للقنص...إلخ.
وما يبعث على الحزن، قدوم هذا السلاح من دولة إسلامية تحظى باحترام شعبي واسع، وتتمتع بعلاقات أخوية حميمة مع الحكومة اليمنية، ولم تتخلف عن مساندة ساحات الربيع وثورات التغيير العربية، ويستحيل وضعها ونظام طهران في دفتي ميزان، سواء من حيث توجهاتها نحو الشعب اليمني أو من حيث حرصها على أمن واستقرار دول الخليج العربي.
بيد أن المعطيات الواضحة على أرض الواقع لا تجيز اختراع المبررات لمجرد رغبتنا في الاحتفاظ بـكاثلوج من التصورات المخملية، لأن الوقائع المادية والجنائية أبلغ أثرا من النوايا الحسنة.. ولا أظن تقنيات القتل الصامت (صدقة سرية) ينبغي عدم الإفصاح عنها حرصاً على مثوبة مضاعفة الأجر!!
لكن من أين لنا إلقاء اللائمة على الخارج طالما ظلت حكومات بلدان الربيع شديدة التعلق بالتفاصيل الصغيرة، كثيرة الاشتغال بصناعة البطولات الإقصائية، غير مكترثة بمرتكزات الوحدة الوطنية لشعوبها؟ وكيف نحمل الخارج تبعات تدخله في شؤوننا ونحن من يستدعيه إلى الداخل ونأتمّ خلفه؟
ومن أين للجبهة الداخلية أن تستعيد عافيتها وتحصن أوطاننا من الاختراق ما دامت ثورات التغيير في حالة ارتخاء ونكاد نرى آثار البلل على ثيابها؟!
عموماً جاء التغيير وضاعت الرؤية.. وحضرت الثورة وغاب المشروع الوطني ببعديه القومي والإنساني.. فما العمل؟؟