حرية التعبير التي تمنحها شبكات التواصل الاجتماعي، تمثل حجر الأساس لإنتاج المعرفة، واستخدام العقل، لإيقاظ الفكرة مقارنة بطرق التدريس التلقينية، التي تعمل على تحطيم الفضول الفطري للمعرفة

التفكير منحة من الله سبحانه وتعالى، بدونها لا يمكن للإنسان أن ينهض بدوره الأسمى في عبادة الله وعمارة أرضه. التفكير ممارسة عقلية تستلزم الحرية والشجاعة؛ كي تقود إلى المعرفة الصحيحة، وإيقاظ التفكير مهمة تربوية في الأصل، تقع مسؤوليتها على عاتق المؤسسات التربوية التقليدية، ولكن هل يمكن القول أن شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت فيس بوك وتويتر ويوتيوب تقوم بها الآن؟.
التفكير هو الضوء المنبثق من عقل الإنسان، كما يصفه أفلاطون. والإنسان ليس بحاجة إلى استقبال المعرفة من الخارج بقدر حاجته إلى تأمل هذا الضوء الطبيعي، وبناء المعرفة من خلاله. وشبكات التواصل الاجتماعي كالـفيس بوك وتويتر والـيوتيوب وغيرها، توفر الفرصة لممارسة هذه العملية التأملية والبناء الذاتي للمعرفة، بسبب ما يشعر به الفرد من ثقة كبيرة في النفس، وقدرة ذاتية على التواصل، وإبداء الرأي والنقاش. إن حرية التعبير التي تمنحها هذه الشبكات تمثل حجر الأساس لإنتاج المعرفة، لاستخدام العقل، لإيقاظ الفكرة مقارنة بطرق التدريس التلقينية التي تعمل على تحطيم الفضول الفطري للمعرفة.
التفكير الحر يستلزم الشجاعة. الشجاعة ليس فقط في أن تعرض أفكارك أمام الآخرين، بل في أن تطرح الأسئلة، بل الكثير من الأسئلة التي تستوقف الفكرة، وتفحصها قبل السماح لها بالدخول إلى عقلك، والانضمام لغيرها من آلاف الأفكار التي تشكل بناءك المعرفي. الشجاعة الفكرية: قدرة المواطن الحر على الإعراب عن شكوكه دون تردّد، بحسب الفيلسوف الألماني كانط الذي يرى أن: نقص الاستنارة ليس ضعفا في التفكير بل نقص في الشجاعة. إذن يمكن القول هنا، إن الاستنارة الفكرية محلّها القلب وليس العقل. والاستنارة حالة وليست صفة، إنها عملية مستمرة تحتاج لجهد وتعلم.
ربما تكون الشجاعة الفكرية أعظم الثمار التي يجنيها الناشئة من شبكات التواصل الاجتماعي، حيث نرى حالة من التنفيس الفكري أمام ما يواجههم من أحداث وقضايا يومية.
في أنظمة التعليم المتقدمة، يتدرب الطلاب على كتابة الرسائل للصحف، يخاطبون فيها عمدة المدينة ومسؤولي الخدمات ومشاهير الرياضة وغيرهم، ويتم تشجيعهم على طرح الأسئلة وتوجيه النقد والتعبير عن رأيهم الشخصي، بوصفهم مواطنين صغارا كتدريب يحتاجونه للتمكن من دورهم كمواطنين فاعلين في المستقبل. ونرى هذه الممارسة في مجتمعنا ليس في المدارس نهارا بل على الأجهزة الذكية ليلا، فالشباب يقومون بإرسال مفكرة mention لأي شخص يملك حسابا على تويتر ويرغبون في التواصل معه والتعبير عما يشغلهم سواء كان الهدف من السؤال التعلم أو الاعتراض أو السخرية أو أيا كان الهدف.
إيقاظ الفكرة عمل جماعي. فالعلم بحسب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار ذات جماعية وتاريخية، وبناء المعرفة أساسه نحن نفكر وليس أنا أفكر. تستيقظ الفكرة حين تخرج من عقل صاحبها وتلتقي بفكرة أخرى على الطريق. وعلى الـتويتر لا تحصى تلك المواقف: (يكتب الفرد تغريدة يعبر فيها عن رأي معين، فتأتيه الردود التي تؤيد أو تعارض أو تستدرك أوتذكّر أوقد تسيء الفهم..) وبعد أخذ ورد يعيد كتابة تغريدته بأسلوب أكثر إشراقا ومضمون أعمق لم يكن لينجح فيه لولا عملية التفكير الجماعي التي حدثت، بل أحيانا ينتهي الحوار بفكرة جميلة وعميقة، تستحق مساحة أطول فيصوغها في مدونته أو على صفحته على فيس بوك وتحظى بالمزيد من المتابعة والتعليق والاستدراكات.
في نظامنا التعليمي قد يتخرج الطالب دون أن يسأل ولا حتى مرة واحدة عن رأيه. أحد الطلاب سوف يتخرج هذا الفصل من قسم القانون، يذكر أنه لم يسبق أن قيل له مرة: هل يمكن أن توضح فكرتك أكثر، أن تتوسع، أن تضرب مثالا، أن تنقد فكرة زميلك، أن تتخيل نفسك ضد هذه الفكرة..؟، ناهيك عن غيره من طلاب التخصصات الأخرى، وطلاب التعليم العام, فكيف لهذا الطالب أن يستعد غدا للوقوف أمام القاضي وهيئة التحقيق؟!، مما يضعنا مباشرة أمام مشكلة جاهزية خريجي جامعاتنا لسوق العمل ومتطلباته. وبدلا من أن نستغل شبكات التواصل الاجتماعي كتقنيات تربوية حديثة، ونفتح لها أبواب المدارس، نجد البعض من التربويين يتباكى على ما في تويتر من سطحية تفكير وألفاظ بذيئة واهتمامات هامشية.
إن معظم المتواجدين على تويتر حاليا هم مخرجاتنا التعليمية التي مهما حكمنا عليها بقسوة، فإنها ما زالت في طور التعلم، في طور التآلف مع ضوء العقل المنفتح على نفسه، وعلى الآخرين.. في طور التحليق، إذ من الضروري أن تجرب الحرية أولا كي تجيد التحليق. الفكرة نائمة رحم الله من أيقظها.
هامش: ما بين قوسين مقتبس من كتاب صور المعرفة لباتريك هيلي