الثورات التي تقتصر أهدافها على تدوير المواقع العليا في السلطة بين ذات النخب السياسة لا يمكن التعويل عليها في إحداث التغيير الجذري القادر على محاكاة العصر وتحقيق شروط الانتقال من كبوات الماضي
ليست ثورة، أي ثورة، ما لم ينبثق إشعاعها عن منهج متكامل يلبي تطلعات الشعوب ويخدم قضاياها العادلة ويترجم أشواقها للتغيير نحو الأفضل ومن أجل الأفضل.
ويستحيل على الثورة، أي ثورة، إنجاز وعودها وإدامة مشروعيتها دون أدوات مختلفة تتجلى أنموذجيتها عن طريق المصداقية في قياس ما كان، مقارنة بما هو كائن.
إن للثورات القادرة على تغيير وجه التاريخ نواميسها من حيث كونها التقاء إرادتين: أولاهما تتنزل بها مشيئة الخالق، فيما تتفصد الثانية من مسامات البشر.. وبذلك تغدو الثورات المظفرة بالنجاحات المضطردة مزيجاً مركباً من عدالة السماء وآلام وطموحات البشر على وجه الأرض.
وحين تنصرف الثورات إلى الماضي، وتنهمك في تفاصيله العبثية، فإنها سرعان ما تقع بين فكيه، ومع مرور الوقت يحدث تماهيها به وتصالحها معه وتصبح جزءاً منه.
صحيح أن واجب الثورات اقتلاع الاستبداد من جذوره، وسحب عوامل مقاومته والاحتراس من تسرب فيروساته إلى ثناياها، ولكن ذلك لا يمكن اعتباره بحال من الأحوال مرتكزاً لمنهج الثورة وأولوياتها.
وسواء أكان هذا الماضي شراً محضاً أم ترعة آسنة يتعين تجفيفها وإيجاد المعالجات الصحية الكفيلة بفرز المياه الصالحة من الأخرى غير القابلة للتنقية، إلا أن العملية الثورية يتقرر مصيرها بمقدار ما تستطيع القيام به لتصحيح مجرى الينابيع الجديدة وضمان حمايتها من الاتجاه صوب الترع الآسنة برواسب الماضي، أو تلك التي يمكن نشوؤها مجدداً على حين غفلة من عقل وبصيرة الثورة.
إن اختزال الماضي المعتم في الحاكم الفرد الذي يدعي الديموقراطية، وعدد من أقاربه ورموز حكمه، يمثل المدخل الملائم لاقتحام الثورات من خارجها، إذ الأحرى بمسار التغيير أن يلحق الوجه الآخر من عملة الاستبداد أو ثقافته وموروثه الصراعي بنفس مآلات النظام السابق، إذا جاز النظر إلى بعض قوى الصراع الماضوي من زاوية الارتباط بالفعل الثوري وتلك حقيقة لا تناكر حولها.
إلاّ ان مجمل حقائق الصراع السياسي في الوطن العربي والعالم ذات وجهين، والأرجح أن مشاركة القوى التقليدية في الثورات الربيعية جرت بدافع الثأر لا من أجل الثورة..
ومن هنا نسأل: لماذا يتوارى التغيير ويخبو وهج الثورة وروحها؟
ولماذا يصبح الصراع على السلطة هدفاً لذاته..؟
ولماذا تحل الانقسامات المدمرة والصفقات المريبة والتسويات المزعجة محل التغيير بقسماته الوطنية وارتباطاته القومية والإنسانية، وكيف تكون الثورة مفتاحا للتغيير وهي لا تحمل في طابعها السائد غير قوالب جاهزة يتم إخراجها من بين أنقاض الماضي وفرضها على الشعوب بمنطق العصبية وقوة القطيع الأيدلوجي؟
وما هو المضمون الاجتماعي والمعرفي الذي تلاقحت به ساحات الربيع في مصر وتونس واليمن..؟
استثني التجربة الليبية كنموذج إيجابي يحتاج إلى وقفة خاصة، وفيما عداها من تجارب ربيعية فلا يكاد الرائي المتفحص يجد فروقا جوهريه بين عديد وقائع تفصح عن غاياتها القصوى..
قد يكون الموقف النقدي تجاه ثورات الربيع متحاملاً.. وجائز أن تكون تعبيراته غير موضوعية ولا تدرك البون الشاسع بين مثاليات الأحلام وتعقيدات الواقع، وإذن فلماذا تكون المعضلات وحدها مشاعا يتقاسمه الجميع بينما يتوقف رسم الحلول وتنازع المقامات على القوى التقليدية حكما ومعارضة..؟
إن الثورات التي تقتصر أهدافها على تدوير المواقع العليا في السلطة بين ذات النخب السياسة القديمة لا يمكن التعويل عليها كثيراً في إحداث التغيير الجذري القادر على محاكاة العصر وتحقيق شروط الانتقال من كبوات الماضي إلى مشارف المستقبل.
وما لم تلمس مجتمعات الربيع مجريات هذا التحول في أداء المؤسسات القضائية والأمنية والخدمية، وما لم يحس الإنسان بأهمية وجوده وتعمل منظومات الحكم على إعادة الاعتبار لمعنى وحقوق المواطنة المتساوية وتمتنع عن تفصيل الدساتير بمقاس حاجاتها.. فإن شتاء قارسا يكون وحده قد فرض ورسخ قواعده على صورة ربيع من أوهام العرب الكبرى.