نحن أمام مرحلة تنموية فارقة تضعنا في مواجهة المسؤولية التاريخية لبناء سياسة تسعى إلى الانعتاق من الاعتماد على البترول كمصدر وحيد، والذي سيؤول للنضوب، والاعتماد لاحقا على الاقتصاد المعرفي وليس الريعي
كلام الناس في بلادي هذه الأيام يدور في فلك الميزانية، كم الأرقام.. وماذا تحمل من بشائر، وماذا رصد فيها من مشاريع صحية وتعليمية وأخرى للطرق ووسائل النقل وللإسكان وللشؤون الاجتماعية ولتوسيع فرص العمل وتقليص نسب البطالة، واستيعاب أجيال الخريجين في الداخل أو في محيط المبتعثين، وغير ذلك من القنوات التي تتمحور حولها الميزانية.
كان الناس هنا في الثمانينات مع بداية الطفرة التنموية ينتظرون الميزانية وما تحمله من بشائر تسهم في تحول هذا الوطن ومواطنيه للارتقاء بهم في مدارج التنمية، ثم جاء حين من الدهر لم تعد الناس تنتظر الميزانية بنفس الحفاوة التي اعتادوا عليها. لكنهم عادوا خلال الثلاث سنوات الأخيرة يتحدثون عن هذه الفوائض المالية غير المسبوقة والتي صارت تزخر بها ميزانية المملكة، ويتطلعون إلى أن يكون أثرها واضحاً وملموساً بحجم ما هي عليه من أرصدة ووفورات مالية ضخمة، لكن قطاعاً معتبراً من المواطنين يرى أن المنجز لا يقابل الاعتمادات المالية الضخمة التي ترصد للمشاريع التنموية، إلا أنها مع ذلك مشاريع تعاني من التعثر بسبب سوء التنفيذ أو عدم التنفيذ أو تأخره الواضح، حتى غدت نسبة تعثر المشاريع كما هو معلن تفوق الـ80% من حجم وعدد المشاريع، وهي نسبة كبيرة وغريبة.
الواقع أن سعر برميل البترول وما يتبعه من دخل وطني غير مسبوق للمملكة يضعنا أمام مرحلة تنموية فارقة، كما يضعنا في مواجهة المسؤولية التاريخية لبناء سياسة تسعى إلى الانعتاق من الاعتماد على هذا المصدر الوحيد، والذي سيؤول للنضوب، أو إيجاد البديل قبل ذلك، كما أننا في مواجهة المسؤولية الأخلاقية تجاه الأجيال القادمة والتي من حقها علينا أن نؤسس لها ضمانة تكفل لها إدارة أمورها لاحقاً، عبر الاعتماد على صناديق استثمارية قليلة المخاطر بما يوفر أماناً للمستقبل الغامض، وكذلك الاعتماد لاحقاً على الاقتصاد المعرفي وليس الريعي، وحتى نضمن سير العملية التنموية بما يحقق الاستثمار الأجدى لهذه الوفرة المالية، لذا فإن علينا مراقبة أسباب تعثر وبطء التنفيذ، والذي ربما يكون سببه أن المنافسات الحكومية تعتمد السعر الأقل عند فتح المظاريف، حتى ولو كان الفائز بتنفيذ المناقصة هو الأقل كفاءة وربما الأقل خبرة، وهو إلى ذلك مقدم عذره لدى المسؤولين في حال تقصيره في مواعيد التنفيذ والإنجاز وفي حال تقصيره في كفاءة التنفيذ، بسبب ضعف أدواته وموجوداته وبسبب رخص سعره، والذي يشفع له الخلل، وأظن أن على الدولة تغيير هذا النهج الذي يسوغ لأصحابه التقصير. ولعل هذا ملموس في الجودة الظاهرة في الاعتمادات الحصرية لبعض المشاريع الكبرى على مقاولين بعينهم دون غيرهم، ولعل هذا التوجه يكون مدعاة لفتح المجال أمام المقاول الأجنبي الذي سينمي ويعجل من حركة تنافس المقاولين المحليين والأجانب، وسيزيد بلا شك من كفاءة المقاول المحلي الذي يعد أحد أسباب التعثر والتأخر في تنفيذ المشاريع حتى الآن، إما بسبب قلة خبرته إذا تولى مسؤولية التنفيذ من الباطن وإما بسبب الفساد الإداري الذي صار واضحاً كالشمس، ولا يزال هو حديث المجالس المحلية، والتي ترى أن غياب الرقابة وضعف الوازع الوطني، وربما الديني، إضافة إلى ذلك غياب الردع والعقاب هو الذي يشجع الفاسد ليستمر ويستمرئ الفساد طالما أنه لا يخشى العقاب.
يتطلع المواطنون لميزانية يمطر خراج سحابتها على مشرق الوطن ومغربه وشماله وجنوبه، ومدنه الكبرى والصغرى، والقرى القريبة والنائية، وكل ميزانية إن شاء الله ووطننا أفضل وأقدر.