غاب الشباب عن الحوار بشكل واضح، وهذا يدل على أننا لم ندرك أهمية المرحلة التاريخية الشابة، فكما أننا بحاجة لأهل الخبرات والشيوخ فإننا بحاجة إلى الشباب الناضج والواعي الذي هو عماد الإصلاح والتغيير
تعد تجربة مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني من التجارب اللافتة في السنوات العشر الأخيرة. ولعل المركز كان نتيجة طبيعية للأحداث ومستجداتها في المنطقة، وطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها المملكة العربية السعودية. والناظر في بادئ الأمر يدرك أن الهدف الذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين هو بذل الجو المناسب لجمع الأطياف المختلفة تحت قبة واحدة لتبادل وجهات النظر في جو يقرب ولا يباعد، ويجمع ولا يفرق، ويكون فيه من الصراحة والشفافية ما يجعل المركز يحقق طموحه وآماله الكثيرة التي يسعى القائمون عليه لتحقيقها بجهود منظورة ومشكورة.
الإشكالية التي تواجه المركز حقيقة تكمن في قضية التمثيل المستتر الذي يفهم ولا يصرح به، ولذلك تجد في الدورة الواحدة من دوراته يحاول القائمون عليه مزج خليط من التوجهات في مكان واحد، فهناك من هو محسوب على الدعاة السنة، وهناك من هو محسوب على المثقفين المستقلين، وهناك من هو محسوب على الطائفة الشيعية، وهناك من هو محسوب على التيار الليبرالي، وغير ذلك من التصنيفات المستترة التي يدركها الناظر مباشرة حين يسرد أسماء المدعوين في لقاءاته المتنوعة. وهذه التمثيلات المتنوعة هي اعتراف ضمني بالتنوع الفكري والثقافي والمذهبي داخل المجتمع السعودي، ولكنها إلى الآن لم تبرز مصرحاً بها، بحيث يضع كل فريق من هؤلاء النقاط على الحروف في مطالبهم أو في موارد اختلافاتهم فيما بينهم. وما لا يقوله هؤلاء تصريحاً يقال بطريقة الاستعارات والتلميحات والإشارات الخفية، حتى أصبحت هذه سمة لمثل هذه الحوارات واللقاءات الفكرية والثقافية.
كان ظني - في بداية انطلاق فعاليات الحوار الوطني - أن يكون ثمة دور أكبر وفاعل للوسط العلمي والثقافي في تصوير طبيعة المرحلة ووضع الحلول والمقترحات لها، وأن نناقش قضايا بوضوح وشفافية ومصداقية حتى لو لم نخرج برؤى متفق عليها، ذلك أن إعطاء المجال الفكري والثقافي دوره الحقيقي في رسم خارطة الطريق للمراحل القادمة ضروري للغاية، وخاصة في أحداث المنطقة الملتهبة والتي تحتاج إلى عملية إصلاح أمر اللحمة الوطنية، والتي هي المؤشر على الثبات في مواجهة الملمات والمدلهمات، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الاجتماع والتعاون مع القيادة في مناقشة المستجدات، وتصور المشكلات الحقيقية والتحديات الكبيرة، ومن ثم بناء الأولويات التي تحتاجها المرحلة حتى نستطيع تجاوز الأحداث بلا خسائر تذكر.
اللافت في لقاء الحوار الوطني الأخير تحت عنوان الثوابت الوطنية للخطاب الثقافي السعودي أن هناك ارتفاعا في سقف التعبير عند بعض المشاركين، حتى تحولت بعض المداخلات إلى بيانات سياسية وتعبير عن رؤى فكرية حادة تجاه بعض القضايا، وهي وإن كانت تخرج في أحيان عن الموضوع المطروح للنقاش إلا أنها تبين أهمية الصراحة في الطرح ومعالجة القضايا بتوصيف دقيق للمشكلات، والنقاش حولها كذلك بصورة تختلف عن نمطية وطريقة إدارة مثل هذه اللقاءات التي من المفترض أن تسمى استطلاع رأي المثقفين تجاه موضوع معين أكثر من كونها حوارا وطنيا وفكريا وثقافيا.
كان الحضور النسائي لافتا للغاية، فعمق الفكرة، والجرأة في تناول المسائل، والتباين في وجهات النظر، والتركيز من سمات خطابهن في الدورة الأخيرة، بل لقد تفوقن على الرجال في عرض وجهات نظرهن، وجديتهن في الحديث عن أفكارهن المرتبة والعميقة حول الثوابت الوطنية ومحدداتها الدينية والتاريخية والإنسانية والحضارية واختراقاتها المتنوعة، مما يعني أن الدور النسائي في دفع الحركة النهضوية والفكرية في المجتمع دور أساس وفاعل لا يمكن لمجتمعنا أن يستغني عنه، أو يهمش دورهن المهم والمأمول.
لقد غاب الشباب عن الحوار بشكل واضح، في مقابل ذلك حضرت الشخصيات المستهلكة التي تدعى لكل فعالية، وهذا يدل على أننا إلى الآن لم ندرك المرحلة التاريخية الشابة، وأننا ما زلنا لم نردم الهوة والفجوة بين الجيل القديم وجيل الشباب المتطلع بآماله وآلامه وطموحه، ذلك أن المستقبل هو للشباب، وأن كثيراً من الكبار قد أدى الذي عليه، ووجب أن يفسح المجال للشباب ليقوموا بواجبهم دون قطيعة بين الأجيال، فكما أننا بحاجة لأهل الخبرات والشيوخ فإننا بحاجة إلى الشباب الناضج والواعي الذي هو عماد الإصلاح والتغيير في كل مجالات حياتنا، وإن تهميشنا لدور الشباب سيوسع الهوة حتى نخلق من الشباب مشكلة بدلاً من أن يكونوا عامل حل للمشكلات، وسبيلاً لوعي نهضوي وحضاري مرتقب.