كانت موائد غالية البقمية وأبوابها مفتوحة لكل قومها وجميع أنصار الدعوة السلفية، حيث كان رؤساؤهم يعقدون اجتماعاتهم في منزلها لسديد رأيها وفطنتها وحذقها في إدارة الأمور

ذكر الأستاذ محمد القشعمي في مدخل كتابه: (بدايات تعليم المرأة في المملكة العربية السعودية)، أنه إذا أراد أحدهم أن يحلف أنه صادق قال: مثل أمي..أي أنه لو كذب سيكون امرأة مثل أمه. استفزتني هذه العبارة كثيرا، وتعجبت لماذا ارتبط ذكر المرأة في بلادي بالشيء المعيب، ولماذا محونا من ذاكرتنا كثيراً من النساء الفارسات الشجاعات الشاعرات وبقي لدينا من المرأة ـ وأنتم بكرامة ـ اسمها الذي يستبدل بقول أكرمك الله.
بدأت قصة اهتمامي بالفن النسائي السعودي، الذي دخلت إليه بمحض الصدفة البحتة، فأنا لست من المتحمسين لشعارات المطالبة بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل، لإيماني بوجود فروقات بين الرجل والمرأة. لكن عندما عكفت على دراسة فن القط في منطقة عسير لم أكن أعلم أنه فن نسائي خالص من مرحلة إعداد الألوان إلى أن تكتمل اللوحة، فاجأني تحول هذا الفن النسائي إلى حرفة رجالية يمارسها فنانون رجال لتزيين منازلهم ولوحاتهم، أو مهنة امتهنتها العمالة الذكورية من باكستان أو أفغانستان، 10 ريالات للمتر.
أخذ فضول الباحث بي يتلمس أسباب هذا التحول الدراماتيكي، فبدأت أحاول وضع يدي على الأسباب التي أدت إلى تغير جنس القط رغم اكتمال أنوثته إلى ذكر ناقص الرجولة كان عارا على الرجل ممارسة القط، فعدت بالزمن ليس البعيد الذي كان فن القط يتمتع بأنوثة طاغية وعار أن يمارس من قبل الرجال، باحثةً عن مراجع تتحدث عن فن القط أو دور المرأة العسيرية في المجتمع، للأسف لم أجد، ومن حسن حظي أن إقامتي في بريطانيا مكنتني من الاطلاع على كتب ووثائق الرحالة الأوائل لعلي أجد فترة انحسر بها هذا الفن ربما يساعدني في فهم الحاضر وهنا كانت المفاجأة، إنني وجدت أن المرأة كانت تلعب دورا أساسيا وفعالا في المجتمع، وبانحسار دورها كانت نقطة التحول في فن القط وبداية اندثاره. وعن طريق قراءاتي المتعددة عن المنطقة تعرفت على رئيسة اتحاد القبائل الجنوبية غالية البقمي التي هزمت جيش مصطفى بك في نوفمبر 1813 وأجبرتهم على إخلاء معسكراتهم وترك أمتعتهم وأسلحتهم، واعتبرها الأتراك قائدة للجيوش السعودية، ونسبوا لها شيئا من قوة وصلابة أنصار دعوة الأمام محمد بن عبدالوهاب.
فمن هي غالية بنت عبدالرحمن بن سلطان البدري البقمي؟ هي أرملة هندي بن محي أحد رؤساء تربة، الذي أنكرت غالية وفاته التي لو أعلنتها، خوفا من ذلك قد يربك الجنود فينهزمون، فاستغلت علمهم بمرضه وعدم قدرته على المشي منذ ثلاث سنوات بعدم خروجه لهم، وقامت بوضع خطة المعركة، وقالت لهم إن الأمير يقول: كذا وكذا.. وبعد انتصارهم أخبرتهم بموت زوجها، فورثت ثروة كبيرة، وزعت المال والمؤن على كل أفراد قبيلتها القادرين على القتال وأعلنوا استعدادهم لمواجهة الاتراك.
كانت موائدها وأبوابها مفتوحة لكل قومها وجميع أنصار الدعوة السلفية، حيث كان رؤساؤهم يعقدون اجتماعاتهم في منزلها لسديد رأيها وفطنتها وحذقها في إدارة الأمور ومعرفتها الدقيقة بمصالح القبائل المحيطة.. كان صوتها واسمها يعرف في كل المناطق المجاورة وأدارت قبيلة البقوم، لكنها للأسف خرجت مع ابنتها زملة من تربة لقيام ابن زوجها المتوفى عليها لتوزيعها مال والده في سبيل نصرة دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب، فهل يصح أن يضاف إلى اسم غالية وأمثالها جملة (أكرمك الله)؟!