لماذا تواصل الوحدات العسكرية الضاربة تموضعها في قلب وأطراف العاصمة صنعاء وعواصم المدن اليمنية الأخرى، بينما تتخلى عن التزاماتها تجاه المناطق الحدودية المخترقة من شبكات التطرف وعصابات التهريب؟
من غير المعروف بعد.. ما إذا كان نجل الرئيس اليمني السابق يستطيع إثبات مهنيته الاحترافية كرجل عسكري ملتزم بالقانون، ومنضبط لقواعد ومقومات بناء وتنظيم الجيوش كما كان يقول، أم يضع نفسه رهنا للإملاءات الثأرية، وسيمضي حتى النهاية متعلقا بموروث الامتيازات الحصرية، التي جعلته على رأس أهم مكون قتالي في بنية الجيش، وأتاحت له من الفرص الاستثنائية ما لا يخطر على بال أكثر القيادات العسكرية تأهيلا وتدريبا وانضباطا وأقدمية.
الجدير بالإشارة أن الرئيس السابق كان – في آخر عهده – يتحدث إلى قناة الجزيرة مبررا انتقائيته في اختيار أقاربه لقيادة الوحدات الأهم في المؤسستين العسكرية والأمنية، وبحسب رأيه فإن متخذ القرار في البلدان النامية يحتاج إلى الاطمئنان، وتلزمه حماية آمنة ذات طبيعة خاصة، أو كما قال!.
الرجل غادر سدة الحكم، وذهبت معه مبررات الاصطفاء والانتقاء.. فيما تحصن خطاب الأولاد بمقولات وردت على لسان جنرالات الحربين العالميتين الأولى والثانية، يوم كانوا يستعرضون عقائدهم القتالية، أو حين يضعون أكاليل الزهور على ضريح الجندي المجهول في إشارة إلى الاحتراف والمهنية، وجاهزيات الفداء دفاعا عن الأوطان، ومثاليات الاستعداد لتنفيذ الأوامر والتحلي بنكران الذات.
ومع ذهاب الغطاء السياسي المبرر لنزعة الانتقاء، تغدو مهنية قائد الحرس الجمهوري، وأبناء عمومته على محك الاختبار، سيما وأن الوقائع على الأرض لا تشي بذلك، إن لم تكن نقيضا له.
من حيث المبدأ، لا أحد ينكر على هؤلاء القادة الشباب الحق في تبوؤ مواقع قيادية عليا مدنية كانت أم عسكرية، طالما هم على قدر رفيع من المؤهلات، وحازوا مراتب جيدة من التحصيل العلمي في أبرز الأكاديميات العسكرية الأميركية والبريطانية دون سواهم من اليمنيين!.
وقد يكون وجودهم في مراكز قيادية مرموقة استحقاقا اعتياديا، لولا أن استحقاقات كهذه لا يمكن القبول باستمرارها نزولا عند نظرة الآباء، وتقويمهم مستوى جدارة فلذات أكبادهم، فليس بالعواطف تبني الجيوش، ولا بالرغبات الذاتية تشاد الدول او تعمر الأوطان.
ما يجعل الجيوش العتيدة متماسكة عمق التزامها بعقيدة قتالية لا تسمح بتعدد الولاءات، وتصادم النوازع والمصالح.. وإذا كان للسياسيين أن يخوضوا تناقضات الحياة، وجدليات الأدلجة، وأن يكون تنافسهم السلمي على السلطة مشروعا – حتى وإن ساد الحمق مكايدات المعارضة للرئيس المنتخب – فإن للقادة العسكريين ميدانا آخر تحكمه قواعد صارمة، لها من النبل ما يلقي عليهم مسؤولية الدفاع عن السيادة الوطنية، وحماية الثغور والمنافذ والتخوم.
والسؤال هنا.. لماذا تواصل الوحدات العسكرية الضاربة تموضعها في قلب وأطراف العاصمة صنعاء، وعواصم المدن اليمنية الأخرى، بينما تتخلى عن التزاماتها تجاه المناطق الحدودية المخترقة من شبكات التطرف وعصابات التهريب؟.. ولماذا لا يعاد انتشار هذه الوحدات قريبا من المصالح السيادية التي تتعرض للتخريب الممنهج ما بين فينة وأخرى؟.
ثمة مفارقات يتعين الوقوف أمامها بحزم.. إذ لم يعد مستساغا ولا مقبولا أن تظل تصريحات الرئيس المنتخب عبدربه منصور هادي، حول اختصاصات القوات المسلحة، ومهام ونطاق عملها، موضوعا من موضوعات الصراع السياسي، أو شأنا محكيا في أوساط المدنيين.
إن مسؤولية رئيس الدولة بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، تفرض على مختلف الوحدات العسكرية أن تضع نفسها رهن قراراته الوطنية دون تلكؤ، وإلا عدت خارج المشروعيتين الوطنية والدستورية..
ومعلوم أن الرئيس هادي يتعامل مع الاختلالات القائمة في المؤسستين العسكرية والأمنية بأناة وصبر، وهو وإن كان يواجه الكثير من المتاعب في هذا الصدد، إلا أن مضاعفات سلبية ربما عكست نفسها على حاضر ومستقبل البلاد، وستؤدي حتما إلى نشوء حالة استعصاء أمام المبادرة الخليجية، إذا ما وصلت سياسات الأناة والتروي درجة الإفراط.
صحيح أن ثورة التغيير في اليمن لم تحدث الأثر الحاسم على معادلات القوة العسكرية، كما كان ذلك شأنها في التأثير على موازين القوى السياسية، ولكن الأصح من هذا أو ذاك ما تمثله المشروعية الشعبية من ثقل يعزز المركز القانوني لقرارات رئيس الدولة، وبوسعه لحظة شاء أن يطلب من شعبه اقتياد الممتنعين عن تنفيذ قراراته، وتقديمهم إلى محكمة عسكرية يعلمون سلفا ماذا يعني الوقوف أمامها!!.
ومن هنا، يكون على الرئيس عبدربه منصور، ألا يتهيب من اتخاذ القرارات الحاسمة، لا في سبيل إنجاز وعده بيمن جديد وحسب، ولكن لانتشال مواطنيه من كوة القلق النفسي الذي يضاهي أحزان الحروب ومصائبها.
على أن آخر الأسئلة وأبلغها تعبيرا عن الواقع، أي حوار نتوقع أو دولة يمكن تخاطرها في الوجدان الشعبي طالما والعاصمة اليمنية تنام على صفيح ساخن؟ وعن أي تسوية نتحدث ونحن نضع رؤوسنا على بعد بضع كيلو مترات من صواريخ اسكود وأخواتها؟ وإلى أن تضع المحنة أوزارها، يتطلب الأمر مزيدا من الاصطفاف الإقليمي والدولي مع الجمهورية اليمنية قيادة وشعبا، ريثما تتمكن من تجاوز النفق المظلم، وامتلاكها فرص الخلاص الكامل من جاهزيات الثأر لبريق ضوء تولى وسلطة أدبرت وهيلمان كان.