على حين غرة انتفض الشباب العربي على أنظمة الحكم المستبدة في أربعة من الأقطار العربية بعد عقود من المعاناة الشديدة جراء استئثارها بالسلطة المطلقة، واستحواذها على الثروة.. فما لبثت هذه الانتفاضات أن تحولت إلى ثورات عارمة نجحت في تغيير الصورة السلبية التي كانت الأوساط العالمية المختلفة قد كونتها عن العرب لفترة طويلة لدرجة صارت معها هذه الصورة على قدر كبير من الثبات والرسوخ..
وجراء ذلك، ظل العالم ينظر إلى أمتنا كما لو أنها مسلوبة الإرادة، وعاجزة عن انتزاع حقوقها، وتطوير نفسها إلى المستوى الذي يجعلها قادرة على مواكبة مقتضيات العصر، والارتقاء ببلدانها ظناً منه بأنها أدمنت الإذعان لقوى التسلط الداخلي، وسلمت بالتنازل عن حقها في تقرير مصيرها، وتخلت عن الإيمان بالقيم الإنسانية الكبرى كالحرية، والعدالة، والحقوق السياسية والمدنية حتى وضعها منتجو الأدب السياسي العالمي خارج قائمة الأمم الحية فيما ذهب بعضهم إلى وصمها بأنها أمة تعيشخارج التاريخ.
وبمعايير التقدم الإنساني، كانت الأمم والشعوب في أنحاء مختلفة من كوكب الأرض في العقود الأخيرة تسير إلى الأمام، وتحقق خطوات مهمة على طريق النمو الاقتصادي، والتطور السياسي والاجتماعي، والبناء الثقافي والحضاري، بينما كان مركز العرب يتراجع إلى الوراء في نواح عديدة، فبلدان آسيا مثلاً حققت معجزات اقتصادية خلال زمن قصير، بينما ظلت الاقتصاديات العربية تعاني من الضعف والتبعية، وشهدت أوربا الشرقية وبلدان أميركا اللاتينية تحولات سياسية نوعية انتقلت بفعلها من سيطرة الأنظمة الشمولية والديكتاتوريات العسكرية إلى أنظمة ديمقراطية ناشئة، ثم إلى أنظمة ديمقراطية ناضجة ومستقرة حتى البلدان الإفريقية في منطقة جنوب الصحراء سبقت العرب في هذا المضمار، وعلى مستوى البناء العلمي والثقافي، تظهر تقارير التنمية البشرية العالمية مركز العرب المزري في ارتفاع معدلات الأمية، ومحدودية إسهام العرب في الثورة العلمية والتقنية المعاصرة.
وبصورة عامة ظل المفكرون المهتمون بالشؤون العربية يعزون هذه الأوضاع المتسمة بالتردي والانحطاط السائدة في المنطقة العربية إلى تسلط أنظمة قمعية سعت بقوة إلى فرض أنواع شتى من الحرمان السياسي، وإلى إخضاع الطاقات الإبداعية لدى المواطن العربي للكبت الشديد، وفرض قيم فاسدة عليه تقلل من ثقته بنفسه وبقدراته، وبأهليته لممارسة حقوقه الطبيعية.. وإلى جانب ذلك اتبعت الأنظمة القمعية سياسات اقتصادية واجتماعية فاشلة، تقوم على إهدار الموارد والعبث بها، وفرض حالة بالغة الخلل في توزيع الثروة، وتكديسها في أيدي أقليات موالية للأنظمة التسلطية عن طريق فتح أبواب الإثراء غير المشروع أمامها، بينما ظلت الغالبية العظمى من الشعب تتخبط بغير هدى في متاهات الحرمان المادي، والعوز الثقافي.
وللخروج من هذا المأزق التاريخي، الذي انتهت إليه الشعوب العربية كان لا بد من تحديد نقطة البداية الصحيحة، التي تسمح بعد ذلك بكسر بقية حلقات السلسلة، مؤذنة بانطلاق مرحلة جديدة، يستعيد فيها المواطن العربي ثقته بنفسه، ويحرر قدراته وطاقاته الإبداعية، وينتج معها شروطاً إنسانية حقيقية تحقق النمو والتقدم على كافة المستويات، وكانت الثورة السياسية على طريق الإطاحة بالأنظمة التسلطية الفاسدة، وإسقاط سطوة الأجهزة العاكفة على ممارسة القمع والإذلال، هي الحلقة المركزية التي يمكن عن طريق الإمساك بها شد بقية حلقات السلسلة، ولطالما ظلت هذه الحقيقة ماثلة في أذهان المثقفين العرب، وفي أذهان القادة السياسيين المؤمنين بحق شعوبهم في التغيير، ولكن ظلت هنالك إشكالية عالقة فحواها: من يعلق الجرس.
لقد بلغ سوء الأوضاع العربية نقطة الذروة عندما قام الشاب التونسي محمد البوعزيزي بإضرام النار في جسده، في لحظة يأس من أن يحظى بفرصة الحد الأدنى من العيش الكريم، وسرعان ما تحولت تلك الحادثة إلى الشرارة التي أشعلت الحريق في السهل كله، وفي غضون أيام قليلة أطاح التونسيون بتسلط أجهزة القمع التابعة لنظام زين العابدين بن علي عن طريق الفعل الشعبي المباشر لجماعات كثيرة من الشباب رجالاً ونساءً لا تربطهم رؤية إيديولوجية واحدة، ولا يجمعهم إطار تنظيمي موحد. لقد خرجت الفئات المختلفة من الشعب لخوض غمار ثورة تغييرية سلمية كان القاسم المشترك بين أبطالها البحث عن الكرامة، بعيداً عن سطوة الأنظمة القمعية الاستبدادية.
وبدون توقف اشتعلت ثورات الكرامة في بلدان عربية عديدة فيما عرف بعد ذلك بثورات الربيع العربي، ويبدو أن المنطقة العربية كلها سوف تنخرط في أتون هذه المعمعة، إلى أن ينتزع العرب لأنفسهم مكاناً جديداً بين الشعوب، ويسجلوا أسماءهم بصورة نهائية في قائمة الشعوب الحية المستحقة للتقدم والتطور.
لقد اختار شباب اليمن وشاباته موعد تحركهم في اللحظة التي أعلن فيها الشباب المصري انتصار ثورتهم بانهيار حكم الرئيس حسني مبارك وإعلانه التخلي عن السلطة، ومنذ الوهلة الأولى لبدء الربيع العربي في اليمن حافظت الثورة الشبابية الشعبية السلمية على زخم جماهيري منقطع النظير، وتكونت في المدن الكبرى والمتوسطة ساحات للتغيير، وميادين للحرية شهدت تجمعات ضخمة من الثائرين والثائرات تطالب بالتغيير وإسقاط النظام الفردي-العائلي الاستبدادي، وفي تلك الساحات والميادين، الشباب حركة ثقافية وفنية ورياضية بديعة، قدمت نماذج أولية لما يمكن أن تنجزه الطاقات الإنسانية في حالة تحررها من الكبت والقمع، وفي حالة أن يستعيد الناس المقهورين ثقتهم بأنفسهم، ويتأكدوا من قدرتهم على إنجاز الأهداف التي خرجوا من أجل تحقيقها، ومنذ الوهلة الأولى لاندلاع الثورة لم يتهاون نظام علي صالح في استخدام كل ما استطاع استخدامه من عنف وبطش، وترغيب وترهيب لإجبار الشباب والشابات على فض تجمعاتهم في ساحات الثورة، وبلغت فظاعة النظام العائلي أعلى درجات الانحطاط في 18 مارس 2011م. فيما سمي بجمعة الكرامة، حيث نشرت السلطة عشرات القناصة المدربين في المباني المطلة على ساحة التغيير في العاصمة صنعاء، مقترفة جريمة في غاية القبح والبشاعة سقط جراءها قرابة خمسين شاباً برصاص القنص، أصابتهم جميعاً في الرأس والرقبة، وأثارت الجريمة استنكارا واسعاً لدى مختلف الأوساط داخل البلد وخارجه، وبدأ النظام يتهاوى بفعل الانقسام في صفوفه، وخاصة في صفوف القوات المسلحة وبفعل صمود الشباب وشجاعتهم الرائعة.
محمد باسندوة
رئيس مجلس الوزراء في الجمهورية اليمنية