الفساد المقنن هو توجيه موارد الشركات ودخلها نحو مصلحة أشخاص أو تكتلات معينة داخل الشركة

كما في عالم السياسة، حيث يبدع بعض الساسة في تقنين فسادهم وحصولهم على منافع يراها العالم أنها غير مستحقة بحدس العدالة وطبيعة الصواب والخطأ، وهم يرونها مستحقة بلي عنق القانون تجاه مصالحم ومنافعهم، فإن عالم الشركات أيضا لا يخلو من الفساد المقنن الذي يعلم الآخرون مخالفته للنظام يقينا بحدس العدالة، ولكن الشركة عند تطبيق الأنظمة والسياسات الداخلية لها فإنها ما تخرش المية كما يقول أحبتنا المصريون. ولهذا الفساد المقنن في الشركات آلياته ووسائله التي سأحاول الإشارة لبعضها هنا في هذا المقال بالتدرج من الأدنى إلى الأعلى من حيث طبيعة الفساد.
قبل الولوج إلى الآليات أود أن أبين أن المقصود بالفساد المقنن هنا هو توجيه موارد الشركات ودخلها نحو مصلحة أشخاص معينين أو تكتلات معينة داخل الشركة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وذلك خارج إطار محظورات النظام والسياسات والأنظمة الداخلية.
من أوجه الفساد في الشركات توجيه مشاريعها نحو أشخاص أو شركات يكون أولئك الأشخاص ذوي مصلحة مباشرة بها، بينما يكون هؤلاء الأشخاص ذوو المصلحة شركاء أو تنفيذيين في الشركة، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يحدث في بعض شركات التطوير العمراني من توجيه مشاريعها نحو مقاول معين، بحيث يكون هذا المقاول تابعا لأحد الشركاء في الشركة بشكل أو بآخر. ولهذا نجد أن الشركات التي ترغب في رفع مستوى مصداقيتها وتحسين علاقتها مع المستثمرين فيها تتبنى بكل شفافية ما يسمى بسياسية الأشخاص ذوي العلاقة التي تفرض على الشركاء والتنفيذيين في الشركة أن يعلنوا عن أي مصلحة محتملة لهم في المشاريع التي يطلعون عليها من خلال منصبهم أو مركزهم، بحيث يكون الجميع على بينة من وجود العلاقة، وبحيث تتمكن الشركة من أن تأخذ قرارها مبكرا بشأن السماح لهذا المقاول بالدخول في المنافسة من عدمه.
من أوجه الفساد في الشركات أيضا الالتفاف على مستويات الصلاحية المالية في اعتماد المشاريع وترسيتها، وذلك بعدة طرق، منها تقسيم المشروع إلى مراحل؛ بحيث تدخل كل مرحلة في مستوى صلاحية الاعتماد لشخص أو مجموعة معينة في الشركة لهم مصلحة في ترسية المشروع لجهة معينة، فيقومون بترسية المشروع وفقا لهذه المراحل على الرغم من أن المبلغ الإجمالي للمشروع (عند تجميع المراحل) سيكون أعلى من مستوى صلاحية من قام بترسيته. وهنالك طريقة أخرى أيضا، وهي أن تتم ترسية المشروع في عامين ماليين متتاليين؛ بحيث يكون جزء منه في نهاية العام السابق والجزء الآخر في بداية العام التالي؛ بحيث تختفي التكلفة بين دفاتر عامين ماليين مستقلين. ومن آليات الفساد الأخرى في هذا الباب أيضا أن يتم الاتفاق مع مقدم الخدمة على أن يقدم سعرا منخفضا في البداية، بحيث يكون هنالك في العقد مجال لما يسمى أوامر التعديل التي في العادة تكون صلاحيتها أدنى من صلاحية ترسية العقد، ثم يتم من خلال أوامر التعديل هذه change order إضافة تكاليف جديدة لأعمال أخرى يتم تصنيفها على أنها خارج نطاق العقد، لنجد في آخر الأمر أن مجموع أوامر التغيير هذه بلغ أضعاف قيمة العقد الأساس، ولهذا فمن المهم للشركات أن تتأكد في عقودها من موضوع أوامر التغيير، وأن تضع له سياسات واضحة داخلها بحيث تتلافى إساءة استغلاله من قبل البعض.
من أوجه الفساد في الشركات أيضا تضخيم أو إضعاف مركزها المالي عند إعداد تقرير الشركة النهائي وحساب الأرباح والخسائر في آخر العام، بحيث يظهر التقرير الشركة في مركز مالي يختلف عن واقعها الحقيقي، ويتم ذلك من خلال إجراء عمليات مالية في آخر العام؛ بحيث تكون في وقت إقفال الدفاتر المالية في المركز المالي المطلوب تسجيله للشركة، ثم يتم عكس هذه العمليات بعد ذلك، وهذا يتم للأسف في بعض الشركات المساهمة التي تم طرحها في السوق، وهو السبب وراء تعثر وإخفاق الكثير منها.
ومن ضمن الآليات التي تتبعها بعض هذه الشركات مثلا لتعديل بعض العقارات من قيمتها الدفترية إلى قيمتها السوقية أن تقوم ببيع هذه العقارات على شركة تابعة لها بقيمة مرتفعة ثم يتم شراء العقار مرة أخرى بهامش ربح فينتفع الشركاء على مرحلتين، الأولى من خلال إعادة تسجيل ذات العقار بقيمة مرتفعة فترتفع بالتالي قيمة الشركة، والأخرى من خلال هامش الربح الصغير أو الكبير، بحسب القيمة التي يتم شراء العقار بها مرة أخرى، وللأسف فإن هنالك من المستشارين من يبرر للشركاء مثل هذه العمليات خصوصا في مراحل تحول الشركة إلى شركات مساهمة لطرحها للتداول، وذلك في سياق تحسين الوضع المالي للشركة ورفع القيمة الاسمية للأسهم وزيادة القيمة المضافة، ومثل هذه العمليات في نظري فيها الكثير من التدليس الذي يحق للمكتتبين معه أن يقوموا بمقاضاة أمثال هذه الشركات والبنوك التي قامت بتقديم المشورة لها.
لا يخلو مجتمع من الفساد لا على مستوى القطاع العام ولا على مستوى القطاع الخاص، وليس هنالك أي آلية يمكن لها أن تقضي على الفساد من جذوره سوى رفع مستوى الشفافية وتطبيق آلياتها بشكل حازم ودقيق، بحيث يكون من خارج الشركة وداخلها على مستوى واحد تقريبا من القدرة على معرفة ما يحدث، وتكون لديه القدرة على المحاسبة والمتابعة، ويكفينا ما رأيناه على المستوى الدولي من أخبار لشركات كبرى تفشى فيها الفساد حتى انهارت، وكان سبب انهيارها أنهم وصلوا إلى الحد الذي لم يعد يمكن لهم أن يخفوا مخالفاتهم، والشكر في ذلك لمبادىء الشفافية التي فرضت نفسها عليهم، وأنهت فسادهم وإن طال أمده.