من الصعب الحكم على مستوى أداء الهيئة وجهودها في مكافحة الفساد، في ظل غياب مؤشرات محلية وإحصائيات لقياس حجم الفساد في المملكة، وبالرغم من وجود مؤشرات منظمة الشفافية الدولية
لا شك أن الناس يعلقون أهمية كبيرة على الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد منذ إقرار تنظيمها، ويتوقعون منها فعل الكثير نحو محاربة الفساد والقضاء عليه، إلا أن هناك أوقاتا يشعر فيها البعض بالإحباط تجاه أعمال ومهام الهيئة، وبدؤوا يتساءلون: لماذا تبدو مهام الهيئة في صورتها الحالية بطيئة وضعيفة؟.
فالبعض يرى أن أعمال نزاهة وما تكتشفه من مخالفات وقضايا على أرض الواقع لا تختلف على الإطلاق عن ملاحظات ونتائج الأجهزة الرقابية الأخرى مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق، ومن ذلك على سبيل المثال: المخالفات المتعلقة بتعثر المشاريع الحكومية وسوء تنفيذها، وبعض التجاوزات الإدارية والمالية مثل الصرف بدون وجه حق، أو الصرف المزدوج، وبالرغم من رد نزاهة على هذه الانتقادات بالقول بأن العلاقة بينها وبين الأجهزة الرقابية هي علاقة تكاملية وذلك حسب تنظيم الهيئة، فالمخالفات التي يتم اكتشافها تتم إحالتها إلى الجهة الرقابية حسب الاختصاص، كما أن هذه الجهات مطالبة بتزويد الهيئة بقضايا الفساد، إلا أن بعض المواطنين يرون أن هناك اختلافا بين التطبيق الفعلي وبين نصوص التنظيم، فكيف يتم تفسير التشابه الكبير بين ملاحظات الهيئة وملاحظات الأجهزة الرقابية الأخرى؟ .
وهناك آخرون يرون أن الهيئة تركز بشكل كبير على قضايا الفساد الصغيرة والتي تتعلق بمعظم الأحيان بصغار الموظفين وبمبالغ صغيرة نسبياً لا تتعدى في معظم الأحيان ملايين الريالات، وذلك على حساب القضايا الكبيرة والتي تزيد مبالغها عن مليارات الريالات!، كما أن الهيئة تلتزم الصمت نحو العديد من القضايا المهمة التي تنشر في وسائل الإعلام المختلفة والتي تتضمن الكثير من شبهات الفساد، فضلاً عن عدم ظهور أي قضايا تمت فيها محاسبة أو مساءلة أي من المتهمين والمسؤولين عن قضايا الفساد التي اكتشفتها الهيئة، وبالتالي خسارة القضايا المختلفة التي تثار ضد الفساد مع أنها قضايا حقيقية وحيوية بالنسبة للرأي العام.
وقد زاد من حدة الانتقادات التي وجهت إلى الهيئة مؤخراً، تراجع مرتبة المملكة إلى المرتبة (66) في مؤشر مدركات الفساد (CPI) والصادر عن منظمة الشفافية الدولية في 2012، بينما حصلت على المرتبة (57) في 2011، مما يعني ذلك حسب رأي البعض أن جهود مكافحة الفساد بطيئة ومتواضعة جداً!.
وبناءً على ما سبق، فإنه من الصعب ـ في الحقيقة ـ الحكم على مستوى أداء الهيئة وجهودها في مكافحة الفساد، في ظل غياب مؤشرات محلية وإحصائيات لقياس حجم الفساد في المملكة، وبالرغم من وجود مؤشرات منظمة الشفافية الدولية، والتي يمكن الاستفادة منها كمرحلة أولية في عملية القياس، إلا أنه لا توجد دراسات تحليلية لمثل هذه المؤشرات، والتي من المفترض أن تقوم بها نزاهة.
قد يتساءل البعض عن مدى أهمية مؤشرات القياس في مجال مكافحة الفساد ودورها في تقييم أداء الهيئة؟، وقبل الإجابة على هذا التساؤل، من الضروري في البداية أن نعرف الأسباب الرئيسية التي تقف وراء إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
فالبعض يرى أن السبب الرئيسي وراء إنشاء الهيئة يعود إلى ضعف الأجهزة الرقابية وفشلها في مكافحة الفساد، والبعض الآخر يرى أنها أنشئت لتهدئة مشاعر الناس تجاه انتشار الفساد المالي والإداري في الجهات الحكومية، وهذه الأقاويل تعوزها الدقة والحقيقة.
ففي رأيي أن السبب الرئيسي يتمثل في حاجة السلطة التشريعية في الدولة إلى معرفة حجم الفساد ومن ثم السيطرة عليه والتقليل من مخاطره وآثاره السلبية على التنمية والمجتمع، ولهذا السبب تم إعداد وإقرار الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، ومن آليات تنفيذ هذه الإستراتيجية، إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بحيث تتولى المهمات التالية:
أ - متابعة تنفيذ الإستراتيجية ورصد نتائجها وتقويمها ومراجعتها، ووضع برامج عملها وآليات تطبيقها.
ب - تنسيق جهود القطاعين العام والخاص في تخطيط ومراقبة برامج مكافحة الفساد وتقويمها.
ج - تلقي التقارير و الإحصاءات الدورية للأجهزة المختصة ودراستها وإعداد البيانات التحليلية في شأنها.
د - جمع المعلومات والبيانات والإحصاءات، وتصنيفها، وتحديد أنواعها، وتحليلها وتبادلها مع الجهات المختصة ذات العلاقة.
وبناءً على المهام السابقة التي تضمنتها الإستراتيجية فلن تستطيع نزاهة القيام بها في ظل عدم توفر قاعدة معلومات فاعلة تتضمن مؤشرات وإحصائيات تتعلق بقياس حجم الفساد، وهذا ما أكدت عليه الإستراتيجية في البند ثالثاً، والذي ينص على: تنظيم قاعدة معلومات وطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد تشتمل على جميع الوثائق النظامية والإدارية ورصد المعلومات والبيانات والإحصاءات الدقيقة عن حجم المشكلة وتصنيفها وتحديد أنواعها وأسبابها وآثارها وأولويتها ومدى انتشارها زمنياً ومكانياً واجتماعياً.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أي إستراتجية تتطلب مدى زمنيا لتحقيق أهدافها المنشودة تتوزع على ثلاث مراحل (المدى القصير، والمدى المتوسط، والمدى الطويل)، تتخللها أهداف مرحلية لتحقيق الأهداف العامة من خلال مجموعة من السياسات والغايات والآليات التنفيذية، وتتضمن كل سياسة عدداً من المؤشرات الكمية لضمان متابعة تنفيذها وقياس مدى نجاحها في كل مرحلة.
ومن هذا المنطلق، يتضح أهمية وجود المؤشرات الإحصائية في عملية قياس حجم الفساد في تحقيق الإستراتجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، وبما أن هذه الإستراتجية تضمنت أهدافاً عامة، فإنها تحتاج إلى وجود أهداف فرعية ومرحلية مجدولة زمنياً تتضمن غايات وسياسات قابلة للقياس ومؤشرات لتحقيقها، حينها نستطيع تقييم جهود مكافحة الفساد، وهذا ما يجب على نزاهة القيام به، بحيث تتم هيكلة الإستراتجية الوطنية وفق منهجية علمية سليمة، وإلا فإن الفساد يستطيع الدفاع عن نفسه وبكفاءة وفاعلية من خلال التعامل السطحي والعشوائي مع ملفاته وقضاياه، والذي يجعل الأمور أكثر تعقيداً، فينتشر الفساد بسرعة، وقد يتحول حينها إلى أمر عادي ومقبول من المجتمع.