تعود بي الذكريات الرمضانية إلى قبل ما يزيد على خمسين عاماً في مدينة أبها، حينما كانت أحياء صغيرة متجاورة تتوزع فيها البيوت الطينية والمزارع بين جبالها ووديانها وتسمع خرير المياه المتخلفة عن السيول والأمطار وهي تجري غيولا رقراقة صافية وقد أحاطت بها النباتات العطرية كالحبق والنعناع والوزاب والعثرب والنمص ومختلف الورود والأزهار، وكان موقع منزل أسرتي يتوسط أعرق أحياء أبها وهو حي نعمان الذي كان يزدحم بالسكان وفيه ساحة صغيرة على مرتفع من الأرض تفضي إلى الجامع الكبير الذي ترتفع منارته البيضاء عالية في السماء ويتردد فوقها صوت مؤذن الجامع العم مرعي بن حريد رحمه الله في صلاة المغرب بعد أن يصعد إلى المنارة ويلوِّح بالعلم السعودي الأخضر إيذاناً بحلول موعد إفطار الصائمين قبل رفعه لأذان المغرب فيراه الجنود المسؤولون عن مدفعي جبل ذرة الشامخ وجبل شمسان عبر (الدرابيل) فيبادرون إلى إطلاق الذخيرة التي تدوِّي في أرجاء المدينة الصغيرة وعندها يبدأ الصائمون في تناول إفطارهم بعد صيام كل يوم من أيام رمضان.
وبعد أدائنا لصلاة المغرب، نعود إلى المنزل لنتناول شيئاً من الأطباق الشهية الرمضانية التي أعدتها أمهاتنا كالسنبوسة والشوربة ولقمة القاضي وقمر الدين وغيرها حيث لم تكن هناك مطاعم ولا فنادق، ثم نستمع إلى صوت فقيه الأدباء وأديب الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله عبر الإذاعة وهو يجيب على أسئلة المستفتين بأسلوبه الأدبي الجميل الذي لا يمل، وبعد أن افتتح التلفزيون أصبح الشيخ رحمه الله يصافح أنظار الناس بعد مغرب كل يوم من أيام شهر رمضان في حلقات (نور وهداية) و(مسائل ومشكلات) و(على مائدة الإفطار)، ثم نستمع إلى البرنامج الإذاعي الترفيهي الذي كان يقدمه الممثل السعودي عبدالعزيز الهزاع في يومياته (يوميات أم حديجان في ليالي رمضان) وكان لذلك البرنامج التمثيلي طعم خاص لكونه يتناول موضوعات اجتماعية مما يمس حياة الناس وكنا نتعجب من قدرة ذلك الممثل الموهوب في تقمصه لأكثر من عشر شخصيات يؤديها بصوته في وقت واحد، حيث لم يكن التلفزيون قد بدأ بثه في ذلك الزمن، ومثله حلقات زميله سعد التمامي ومنولوجات حسن دردير.
وبعد أن نؤدي صلاتي العشاء والتراويح في مسجد الحي نعود إلى بيوتنا للتسامر مع الأهل وتبادل الزيارات الودية مع الأقارب والجيران، ثم يخلد الناس إلى النوم بعد الساعة الرابعة مساء بالتوقيت الغروبي التي يوافق العاشرة بالتوقيت الزوالي آنذاك، وعندها تخلو الطرقات من المارَّة وتهدأ الأصوات إلا أصوات صفارات (العسس) الذين كانوا يتجولون بين الأحياء للمحافظة على الأمن وعلى الأتاريك المعلَّقة على أعمدة خشبية لتضيء للناس. فإذا ما انطلق مدفع السحور من جبلي ذرة وشمسان استيقظ سكان أبها استعداداً لتناول طعام السحور إلى أن ينطلق مرة أخرى معلناً عن الإمساك عن الأكل والشرب لحلول صلاة الفجر.
وبعد أداء صلاة الفجر في المساجد، يعود الناس إلى بيوتهم لتلاوة ما تيسر من القرآن الكريم فتصبح البيوت وكأنها خلية نحل فكنت تسمع لها دويّاً بالتلاوة التي يشترك فيها الرجال والنساء والأطفال ثم ينطلق الناس إلى أعمالهم اليومية، وبعد العصر ينتشر الأطفال والشباب في الأحياء لممارسة بعض الألعاب الرياضية المتعددة مثل كرة القدم والتسابق على الدراجات والدنينات ومثل بعض الألعاب المسلية التي اندثرت مثل الزقرة والغبيبا وطاق طاق طاقية والكعابا والقب والمقطار وغيرها.
عبدالله محمد بن حميد - المستشار الشرعي في إمارة منطقة عسير