كان يوما ممضا. لم أنم منذ 48 ساعة إثر اختبار شائك وبحث طويل. وجهي تحول إلى سرادق عزاء. استوقفني على إثره، شاب التقيته سابقا في النادي السعودي، وأنا أخرج من مسجد أبو بكر الصديق بدنفر في ولاية كولورادو الأمريكية. سألني عن سر الهالات السوداء حول عيني وهو يضغط علي يدي. قال لي وأنا أتعثر في الإجابة جراء

كان يوما ممضا. لم أنم منذ 48 ساعة إثر اختبار شائك وبحث طويل. وجهي تحول إلى سرادق عزاء. استوقفني على إثره، شاب التقيته سابقا في النادي السعودي، وأنا أخرج من مسجد أبو بكر الصديق بدنفر في ولاية كولورادو الأمريكية. سألني عن سر الهالات السوداء حول عيني وهو يضغط علي يدي. قال لي وأنا أتعثر في الإجابة جراء الإرهاق والتعب: تزوج. ستقلع عن السهر. وستجد من يطبخ ويعتني بك. أسأل مجرب؟. ابتسمت له وافترقنا.

بعد نحو عامين من ذلك اللقاء أولم لنا شاب سعودي في فلوريدا بمناسبة حصوله على الدكتوراه. نصحنا وهو يودعنا أن نتزوج قائلا: لن تفكروا بعدها في طعام أو ملابس مكوية.

ارتبطت صورة زوجة المستقبل لدي خلال الغربة في تحضير الطعام وكي الملابس بفضل النصائح التي زرعها في رأسي أبناء جلدتي من المتزوجين. اختزلوا الزوجة في صورة امرأة ترتدي مريلة طهي. أو بتعبير أدق خادمة.

يقضي بعض المبتعثين سنوات في الخارج ويعودون إلى الوطن مكللين بالشهادة وأبنائهم باللغة. في حين تعود زوجاتهم كما جاؤوا أو أقل قليلا. يصر بعضهم على سجن زوجاتهم في الغربة. يذهبون إلى الجامعة وأطفالهم إلى المدارس بينما تنهمك زوجاتهم في تنظيف المنزل وإعداد الطعام وغسل الملابس. يعودون إلى المنزل وهم يتحدثون عن يومهم المزدحم بالمتعة والفائدة، بينما تكتفي الزوجة بالإصغاء وأحيانا سؤالهم عن رأيهم في طبق اليوم؟ لاشك أن ظروف المبتعثين متفاوتة. فمن لديه خمسة أطفال ليس كمن لديه واحد أو اثنان. لكن هذا لا يمنع الزوجة من التسجيل في معهد اللغة أو الانخراط في دورة تدريبية قصيرة تضيف لمهاراتها وهواياتها.

محزن أن تقضي الزوجة سنوات حياتها وهي تطبخ وتنفخ دون أن تستثمرها كما ينبغي. دون أن تتعرف على الجانب الآخر من العالم من خلال الاحتكاك والمشاهدة لا من خلال الآخرين. أدرك تماما أن هناك زوجات سعوديات استفدن من كل لحظة في غربتهن سواء معرفيا أو فكريا أو ترفيهيا. لكن أعلم أيضا أن هناك الآلاف ممن لم يفارقن منازلهن إلا لماما، وهن بيت القصيد.

لا أضع اللوم فقط على الرجل، رغم أنني أحمله المسؤولية الأكبر سواء بالدعم أو التشجيع ولكن أيضا أحمل المرأة جزءا من مسؤولية ضياع سنوات ذهبية من عمرها هباء منثورا دون مقاومة أو إصرار للحصول على أبسط حقوقها. التغيير الذي ننشده من الابتعاث لن يأتي إذا استفاد منه طرف دون آخر.

إذا كان يعتقد أي مبتعث أنه وفر مبلغا أو أبلى بلاء حسنا عندما أودع زوجته في المنزل فهو مخطئ بل إنه ارتكب ذنبا عظيما في حقه وذريته. فالأطفال لن يرثوا من أبيهم ملامحه بل طباعه أيضا. سيحجبون زوجاتهم ويحبسونهم لاحقا. متى ما كانت لدينا إرادة في التنمية والنهضة الحقيقية ينبغي أن نتيح لزوجاتنا الفرصة للخروج والتواصل مع المجتمع الذي من شأنه أن يوسع المدارك ويلقي بظلاله على مستقبل الأسرة والوطن.

ليست المرأة السعودية وحدها من يحتاج إلى الخروج واكتشاف الفرص وملامستها لتصقل تجربتها ووعيها، بل كل نساء العالم من شرقه إلى غربه، تقول وزيرة الثقافة الأسبانية، والمخرجة والكاتبة الشهيرة، أنخيليس جونثاليث سيندي: لا شيء يدعو للشفقة أكثر من منظر زوجة تطهو وتكنس، وبجوارها زوج غير مكترث يقرأ الجريدة ويبتسم. هذا المشهد المحزن الذي وصفته معالي الوزيرة يعكس واقع الكثير من منازلنا في الخارج. الرجل يدرس ويكتشف ويستمتع والمرأة تغسل وتنظف. تحتل الزوجة في الخارج الدور الذي تقوم به الخادمة في الداخل رغم وجود حضانات وعاملات منزليات بالساعة في حلول تتيح لهن الدراسة أو خيارات معرفية وثقافية أخرى. قبل أسابيع وفي مطعم عربي بمانشستر ببريطانيا شاهدت طفلا سعوديا مع والديه. تحدث مع النادل بلغة إنجليزية. وعندما انتهى من حديثه وانصرف الموظف سألت الأم الأب بإلحاح: ماذا كان يقول محمد؟. لقد تفوق عليها ابنها الذي لم يتجاوز الخامسة. وربما تحتاج وشيكا إلى مترجم عندما تتحدث معه. إنها مأساة حقيقية. أن تصبح الأم على الهامش في منزلها كخادمة أو أقل كثيراً. الجميع يحصل على فرص ومساحات جديدة إلا هي. إذا المرأة لدينا لم تحصل على حقوقها في منزلها لا أعتقد أنها ستحصل عليها في الشارع.