لم يكن ثعبانا ذلك الذي تلوى في جنبات القصر وأرعب الحراس، بل تأتي القصة بما يفجؤ العقول الصغيرة، ويبعث في ردهاتها الأسئلة، إنه إنسان في هيئة وشكل ثعبان ضخم، ثم تنساب النهاية السعيدة.. لقد كان أميرا مسحورا، انشق عنه جلد الثعبان فخرج في حلة قشيبة، أميرا وسيما تلتمع نجوم البهاء حول وجهه، فيما ينظر إلى محبوبته أميرة القصر لتنتهي الحكاية بـالثبات والنبات بعدما ظنا كل الظنّ ألاّ تلاقيا.
كانت هذه هي خلاصة قصة مما كنّا نقرؤه من قصص خصصت للأطفال، ولعل أبناء جيلي الأربعينيين ما يزالون يتذكرون ما كانت تغمرنا به دار المكتبة الخضراء اللبنانية من قصص فانتازيا تعمل فينا مفعول السحر من العيش في عوالم متخيلة أخاذة لا نريد الخروج منها، بل إني أتذكّر حزني الشديد حال اقترابي من نهاية القصة التي تأذن بالعودة إلى الواقع مرة أخرى.
تربية العقل على التخيل مهارة مؤثرة ومفيدة، إن بناء التصورات قبيل الإقدام على أي عمل ومدى القدرة على رؤيتها في صورة متخيلة جلية يجعل من خطوات تحققها أمرا ميسورا، بل إنه يأخذ منحى إبداعيا في التعاطي مع المنجز، فيكون مختلفا وخارجا عن النمط، وهذه سمة الفعل المبدع في أي مجال.
عقول الأطفال كنوز ضخمة في مساحات صغيرة، أي أننا أمام شرائح ميكرو تحمل في طياتها قدرات هائلة من عمليات التفكير والتخزين والاكتساب، وحتى نستفز هذا التكوين الذي فطره الله سبحانه وتعالى، علينا أن نضعه على محك التصور والمخيال قدر الإمكان، وليس كالقصة – في رأيي- ميدان لتدريب عقول الصغار، خاصة طلاب المراحل الأولية من التعلم الأساسي، وما قبلها على ترقية خيالهم، وإكسابهم مهارة البحث عن رؤية وتصور بعديّ لما يريدون القيام به مستقبلا.
غير أن ما يقلق حقا هو أن هذه العقول قفزت على هذه المهارة فذوت وعطّلت بفعل متغيرات التقنية فلم يعد على الطفل أن يتخيل شيئا بعد أن أصبح يقلب العالم عبر وسائط التقنية بين أصابعه، فيرى المعقول وغير المعقول بلمسة خفيفة على سطح جهازه، وبات يسمّر نظره دون إعمال عقله في مئات المشاهدات الثابتة والمتحركة في حالة إرجاء لعمليات التفكير العليا معتمدا على أيسرها وأبسطها، ألا وهي عملية التعرف الأولى التي تنطفئ مباشرة بُعيد إغلاق المقطع.
التقليدية ليست شرا محضا، والتجديد ليس خيرا عميما دائما، ومن المؤسف حقا أن تعطل قدرات الأبناء العقلية بدعوى أن التقانة وفرت كل شيء.