الآن، وثورات الربيع العربي تضع مولودها البكر في مصر وتونس، هل حقا ألقت شعوبنا عن كاهلها حمولات الماضي واستطاع المارد العربي امتلاك هوية مميزة تعزز حضوره بين يدي المستقبل؟

أواصل الكتابة النقدية لثورات الربيع، رغم يقيني بعدالتها وحتمية بعضها. بيد أن الثورات العربية والإسلامية في تاريخنا الوسيط، رزئت بالتراجع والانكسار جراء المغامرات التي سادتها وغلبة الطابع الأناني الذي وسم قياداتها، وهما عاملان رئيسان أديا إلى إساءة استخدام المشروعية الثورية وتكريسها باتجاه الدلالة الرمزية للحزب المقدس والزعيم الرمز.
وحسب ذلك التراجع في تجارب ثورات التحرر أن ينتهي إلى أمثلة جسدتها الحالة القذافية واحتدم طابعها الدموي المروع بممارسات ضرغام سورية الراحل وخليفته العادل بشار الأسد!!
لهذا أزعم أن العملية النقدية لثورات ما قبل الربيع العربي تأخرت كثيرا، الأمر الذي حول انطلاقتها الذاكية بمشاعل الاستقلال إلى سرداب مظلم نمت في جوفه زواحف مخفية وجوارح كاسرة، عاشتا وتعايشتا مع الاستبداد المخلوع بمستوى متوسط من الترصد والتربص المتبادل. وحين أوشكت ظروف التحول التاريخي على النضج وأخذت الشعوب تشق طريقها إلى ميادين الثورة، كانت ثقافة الصراع التي جسدتها حقب الاستبداد تتصدر الطوفان البشري، وتعتلي معظم المنصات الثورية وتقدم للناس أطباقا من الوعود الواهمة.
كنت أسال نفسي وما أزال: أي منطق هذا الذي يجعل الجماهير عازفة عن إدراك الفارق الجوهري بين إسقاط السلطة المستبدة - جذورها وبذورها- من جهة وإسقاط النظام من الجهة الأخرى ولماذا؟.. لماذا تكون الشعوب مع إسقاط النظام؟ أليست الثورة تعبيرا عن حاجة مجتمعية إلى قيام دولة مدنية مؤسسة عمادها القانون والنظام؟ أليس ما نشكوه جور وطغيان ونرجسية السلطة المستبدة الآمرة بمزاج فرد؟
ثلة من تلك الأسئلة طرحت منها ما تمت إحالته على منزلة بين منزلتين، وحينها هرع العقل المؤدلج لتقديم تفسيرات غاية في الاحتيال والمراوغة، معتبرا أن الشعار المرفوع بإسقاط النظام يترجم روح التغيير الشامل، إذ المقصود بالنظام طرفا الصراع الماضوي (سلطة ومعارضة)!
والآن، وثورات الربيع العربي تضع مولودها البكر في مصر وتونس، هل حقا ألقت شعوبنا عن كاهلها حمولات الماضي واستطاع المارد العربي امتلاك هوية مميزة تعزز حضوره بين يدي المستقبل؟
من قال إن خصوم الحكام المخلوعين نبتوا في تربة لا يمثل الاستبداد سمادها؟ من قال إن صراعهما القديم ينطلق من تقاطعات مبدئية وتمايزات برامجية تجعل أحدهما في صف الدولة الحداثية والآخر مع الدولة البوليسية؟ من قال إن الحرية والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون أو أيا من قيم السلام والأخوة والتعايش كانت على جداول أعمالهما في السابق وغدت اليوم ضمن وشائج تفاهماتهما الربيعية؟ ومن يقول اليوم إن الميول المتطرفة ولغة السلاح ونزعات الاستئثار وتهميش الآخر وإقصاءه لم تكن قواسم مشتركة يمارسها طرف بوسائل وأدوات ومال الدولة وينتهجها الطرف الآخر بآلياته الحزبية واستعداداته الجهوية والعشائرية والتعبوية؟ من قال إن ثكنة عسكرية قصية تستطيع شحن القدرات الذهنية لدى أحد ضباطها لتنفخ فيه روح ومؤهلات القيادة والزعامة والتفوق لثلاثة عقود من الزمن؟
أهذا ما تفعله الثكنات!! أم ما تقوم به القوى السياسية التي تبحث عن رجل بمواصفات رغباتها، وما يلبث الأمر أن يتحول إلى خصومة فصراع، ومنهما إلى حلبة سباق على إخماد جذوة الثورة واقتسام وتقاسم مقدرات الأوطان ومصادرة تطلعات الشعوب وتوقها إلى مستقبل مختلف تقودنا إليه ثقافة تنوير لا مشاحنة تدمير.. مستقبل وضاء تعبّد دروبَه آليات عمل وطنية ناهضة وعقول نظيفة من خبرة التآمر وموبقات الماضي؟
ولا غرو أن تداول الأسئلة الكاشفة يقود بالضرورة نحو معاينات تشخيصية تستطلع دوافع قوى الصراع التقليدي – اليمن مثلا – لاستدعاء رواسبها الماضوية ووضعها في طريق رئيس الجمهورية المنتخب؟ أهي الغيرة من التأييد الإقليمي والدولي غير المسبوقين؟ أم الرغبة في إضعاف الإرادة الشعبية التي اختارته وتعمد التضييق عليه بهدف تمرير التسويات الحزبية وتحقيق المكاسب السريعة على طريقة (شايلوك) في جني الأرباح؟ وهل كان بمقدور المتضررين من التغيير أن يواصلوا دأبهم في هدم المعبد على رؤوس الناس لولا تأكدهم من تغاضي الخصوم وتشابه الأضداد!؟
إن الثورة مسار تاريخي يكتسب صيرورته من العمل وفق مبادئ واضحة وأهداف جلية.. ومتى اعوج ذلك المسار، يكون على دعاة الثورة ومناصريها إعلان مرحلة نضالية جديدة أبرز فصولها نقد الثورة.