إزاء واقع التسليع الفني على الطريقة الأميركية يرى علي حرب أن 'الأجدى من نعته بـ'التافه' هو معرفة ما طرأ عليه من تحولات، بعد تشكل العالم الافتراضي والاقتصاد المعرفي، وما تلفزيون الواقع إلا ثمرة من ثمار هذا التحول

-1-
كان انتشار الثقافة الشعبية الأميركية أحد مظاهر نجاح هذه الثقافة، ذات الوجه القبيح في رأي البعض، وذات الوجه الحسن في رأي البعض الآخر، الذي كان يرى أن تسليع الفن بهذا الأسلوب الأميركي، من قبل شركات تسليع الإنتاج الفني الأميركي في مجال موسيقى البوب، وفي مجال موسيقى الراب، وفي مجال السينما، هو من مفاتيح العولمة، والإطلالة على الحياة الجديدة، والمجتمعات الجديدة، مما ييسر غداً شق اوتوستراد الحداثة، وليس زواريبها في العالم العربي، الذي بدأ وهماً سياسياً في العراق بعد التاسع من نيسان 2003، وبدأ فنياً في لبنان- أكثر الدول والشعوب العربية قرباً من الغرب - من خلال تلفزيون الواقع، الذي هو نتاج أميركي مئة بالمئة، ومن خلال البرامج، والمسابقات الفنية التلفزيونية، التي هي نسخة طبق الأصل عن البرامج التلفزيونية الأميركية الفنية.
-2-
ومن هنا، بدأ بعض المتشددين، بمهاجمة مثل هذه البرامج، ومثل هذا الإنتاج الفني، الذي عده بعضهم إنتاجاً هابطاً يُسيء إلى التراث وقيمه، ونادى هؤلاء بمنع بث مثل هذه البرامج. وفي الواقع، فإن احتقار هؤلاء لمثل هذه البرامج، نابع من علمهم بأن هذه البرامج، وهذا الإقبال الشديد عليها، من قبل جمهرة الشباب من صغار السن، سوف يفتح غداً أبواب العولمة، وأبواب الحداثة على مصراعيها أمام المجتمعات العربية، ويصرفهم عن واجبات كثيرة. واعتبر هؤلاء، أن مثل هذه البرامج مصيبة كبرى حلّت بالعرب. وقال أحدهم، في موقع على الإنترنت: مصيبة عظمى وطامة كبيرة، تُضم إلى ما قبلها من البلايا والرزايا. وجب النصح والتذكير أن أنبه، على أمر لا ينبغي السكوت عنه، بل يجب الحذر منه، والابتعاد عنه، وهو ما يحصل في القنوات الفضائية من خدش للحياء، والعفة، والكرامة. وفي بعض الدول العربية، صدرت فتوى بتحريم غناء النساء، وتحريم الاشتراك في مثل هذه البرامج الفضائحية، وحرَّمت الفتوى الصادرة، على أي جهة تنظم حفلات غنائية لصالح مثل هذه البرامج، أو تحت أي اسم آخر إذا تضمّنت ممارسات محظورة. كما حرّمت حضور أو مشاهدة مثل تلك الحفلات، ودعمها بأي شكل من الأشكال. وقامت ضجة كبيرة. وهدد أحد أعضاء مجلس الأمة في دولة عربية، وأحد كبار المتشددين المعارضين للبرنامج بمساءلة وزير الإعلام أمام البرلمان، حول هذه القضية. فيما اعتبر كاتب هازل أن برنامجاً كهذا، كان كمثله من البرامج، التي أدت إلى سقوط الإمبراطورية العباسية!
-3-
وقد اغتاظ داعية ديني، مودرن وأنيق، يتاجر بالمخدرات التراثية، ويكسب من تجارتها ملايين الجنيهات، ويتشبّه بممثل السينما الأميركي الراحل كلارك جيبل، والممثل المصري الدونجوان الراحل رشدي أباظة، من هذا الإقبال الكبير على البرنامج ، بينما لا يحظى برنامجه إلا بقلة من الشباب الضائع، الذي يبحث عن طوق نجاة من خلال ما يبيعه لهم هذا.
-4-
وعلى موقع آخر في الإنترنت، قال إمام مسجد في خطبة الجمعة: إن هذا البرنامج سلاح دمار شامل للقيم الاجتماعية. وهو من أسلحة الدمار الشامل لكل أنواع القيم، والعفاف، والفضيلة، مما يسهم بجلاء في خلخلة المنظومة الاجتماعية المحافظة، والنسيج الأخلاقي المتميز لهذه الأمة، ويفرز آثاراً اجتماعية خطيرة للتمرد على القيم، والانفلات من الأخلاق، والمثل. وجاءت تصريحات هذا الإمام، بعد ثلاثة أيام من صدور فتوى رسمية بتحريم البرنامج الذي كانت تُبث تفاصيله طوال 24 ساعة. وحضّت الفتوى رجال الأعمال الذين يُموّلون مثل هذه البرامج على خشية الله، وعدم استخدام أموالهم في تدمير الشباب. وأخيراً وصل الحد بمؤسسة للاتصالات إلى منع الشباب والشابات من التصويت، وحجب كل المكالمات بهذا الشأن عبر الهاتف الجوال.
-5-
بالمقابل، كان للمفكرين الحداثيين الليبراليين رأي مخالف آخر. فعلي حرب المفكر اللبناني، كان يرى وجهاً آخر لهذا التسليع الفني على الطريقة الأميركية. فهو يرى، أن: ثمة من يتعامل مع هذه الظاهرة بعين السلب والعداء، إذ يرى بأنها مظهر يدلُّ على فقر الثقافة وانحطاط الفن، بل هناك من يتحدث عن موت الثقافة وتسليع العقول والأجساد، معتبراً ذلك نتيجة سيئة لعصر العولمة والتقنية. ويضيف علي حرب بقوله: فمن جهتي أنا أقرأ الظاهرة بصورة مختلفة، فالعولمة، بما تعنيه من تشكّل مجتمع المشهد، والشبكة، والصورة، قد فتحت إمكانات، لا سابق لها، للتعدد، والتنوع، والتفرد، في مختلف مجالات الإنتاج المادي، والرمزي. ونحن إزاء واقع جديد، لا يغني معرفةً، ولا يجدي عملاً، وصفُهُ بـ [التفاهة] كما ينعته كثير من المتشددين. إن الأجدى والأغنى قراءة الواقع لمعرفة ما طرأ عليه من تحولات، من حيث مشهده، ونظامه، ومفاهيمه، وقواه، وأدواته. وأبرز هذه التحولات هو تغيّر العلاقة مع الواقع والحقيقة، بعد تشكل الواقع الافتراضي والاقتصاد المعرفي، وبروز الإنسان الرقمي. وما (تلفزيون الواقع) إلا ثمرة من ثمار هذا التحول.
-6-
ولم يكتفِ بعض العرب بهذا، بل راحوا يقلّدون الأميركيين في المأكل، والمشرب، والملبس. فأخذ بعض العرب من الأميركيين طريقتهم في التهام الوجبات السريعة. فانتشرت مطاعم هذه الوجبات انتشار مطاعم الفول، والحمص، والفلافل، والشاورما. علماً أن لا موجب لهذا اللون من الطعام في العالم العربي. ولكنه التقليد الأعمى العربي للغرب وللأميركيين على وجه الخصوص. فإذا كانت هناك موجبات أو دوافع لوجود الوجبات السريعة في أميركا، فهي سرعة حركة الحياة الأميركية، وكون العامل، والطالب، والموظف الأميركي، لا يجد وقتاً كافياً لإعداد طعام صحي، وجيد. فكان أن تمَّ إيجاد نظام الوجبات السريعة التي تلائم المجتمع الأميركي السريع الخطوات والحركة، أكثر من أي مجتمع آخر. أما في العالم العربي البطيء الحركة، فما زال الطعام العربي الذي يتطلب إعداده وقتاً طويلاً، هو الطعام الملائم، نتيجة للحياة العربية، ذات الإيقاع البطيء. فكيف نريد من السلاحف أن ترقص على أنغام الراب الأميركي السريع الإيقاع، وتأكل الهامبرجور الأميركي، وتلبس الجينـز؟ وهل لا يرى بعض العرب في أميركا، غير ما يعتبره البعض وجهاً قبيحاً؟