الفلسطينيون وافقوا على إنهاء مقاومتهم المسلحة للاحتلال، وذلك يعيد الجميع إلى المربع الذي تسبب في تفتيت العمل السياسي الفلسطيني، حماس والجهاد الإسلامي قبلتا بمنهج عرفات الذي رفضتاه بالسابق

بعد ثمانية أيام من حرب ضروس، شنها العدو الصهيوني على أهلنا في قطاع غزة، توقف إطلاق الرصاص، وخرج الفلسطينيون في جميع الأراضي المحتلة ابتهاجا بذلك. هذا العدوان هو الأشد ضراوة على القطاع، منذ عدوان أواخر عام 2008. فقد تجاوز عدد ضحايا هذه الحرب الـ 1200 فلسطيني، بين قتيل وجريح، بينهم 180 شهيدا. وإذا ما قورنت هذه الحرب بسابقتها، فإن الخسائر في الأرواح أقل بكثير من حرب 2008. فقد استشهد في الحرب السابقة على القطاع أكثر من 600 فلسطيني، وأكثر من 5000 جريح، في حين لم تتجاوز أعداد القتلى والجرحى في هذا العدوان، الـ 30% من خسائر تلك الحرب. والقول هذا يصح معكوسا على الصهاينة، فحرب 2008، شنت من طرف واحد، هو الكيان الغاصب، وكان أهل غزة ومقاومتها يتلقون الضربات، بمقاومة تفتقر للسلاح والعتاد. وبالمثل لم يواجه عدوان 2008، على قطاع غزة، بموقف تضامني عربي وإسلامي رسمي، في حين سارع بعض القادة العرب والقيادة التركية لنصرة قيادة حماس، أثناء هذا العدوان، وشاركوا في النتائج التي انتهت بتوقيع الهدنة.
ولذلك يمكن القول إن اتفاق الهدنة، الإسرائيلية/الفلسطينية، بغض النظر عن تقييمنا له، هو ثمرة التضامن الرسمي العربي والإقليمي، والضغوط الدولية على مختلف الأطراف المتحاربة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. فالاتفاق كما أعلن، تم برعاية مصرية، ووساطة قطرية وتركية، وأيضا بدعم أميركي.
بموجب اتفاق الهدنة، التي وصفت بالدائمة، توصلت الحكومة الإسرائيلية، والمقاومة الفلسطينية ممثلة في حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى وقف إطلاق النار، والامتناع عن إطلاق الصواريخ على المستوطنات، والهجمات على خط الحدود. ووافقت حكومتا إسرائيل ومصر، على فتح معابر غزة، وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع، وعدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية. وقد قبلت الحكومة المصرية أن تكون ضامنة لهذا الاتفاق، وفى حال وجود أي ملاحظات، لدى الطرفين المعنيين به، يتم الرجوع لحكومة مصر للفصل في الخلاف، وتأمين استمرار الالتزام بالاتفاق.
الأمر المؤكد، أن مسارات الحرب، غيرت من معادلة الرعب، التي درج العدو الصهيوني على فرضها، طيلة عقود الاحتلال، فقد تحولت هذه المعادلة لخطين متكافئين، أحدهما فرضه العدو، بأسلحته الفتاكة، والآخر فرضته المقاومة، بإطلاق الصواريخ على المستوطنات الصهيونية، وليمتد مداها إلى تل أبيت والقدس.
لكن تغيير معادلة الرعب، الذي هو في نتيجته لصالح الفلسطينيين، لم يترجم واقعيا في اتفاقية الهدنة. فالاتفاق، في روحه ونصوصه، عنى أن الموقعين عليه من الفلسطينيين وافقوا على إنهاء مقاومتهم المسلحة للاحتلال، وذلك يعيد الجميع إلى المربع الذي تسبب في تفتيت العمل السياسي الفلسطيني، حين تمسكت حماس والجهاد، ومنظمات فلسطينية أخرى، باستمرار المقاومة. بمعنى آخر، أن نصوص هذا الاتفاق، هي في حقيقتها استنساخ، باستحقاقات أقل، لبعض بنود اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات والكيان الصهيوني. ويمكن أن يجادل المدافعون، عن أوسلو، أنه مكن منظمة التحرير من إقامة سلطتها بالضفة وقطاع غزة. خلاصة القول: إن حركتي حماس والجهاد الإسلامي قبلا بعد ما يقرب من العقدين من الزمن، بمنهج الرئيس عرفات نحو التسوية السلمية الذي رفضتاه بالسابق.
وإذا ما أردنا أن نواصل الجدل في هذا السياق، فإن هناك شكوكا مشروعة حول اعتبار تعهد الكيان الصهيوني بوقف الاجتياحات والاغتيالات من النتائج الباهرة لانتصار المقاومة. مرد هذه الشكوك، أن الكيان الصهيوني، لن يقوم بالاجتياح والاغتيال إلا في مواجهة الكفاح. إن قوات الاحتلال تهاجم من يقاوم الاحتلال. وحين تتوقف المقاومة عن امتشاق السلاح، فإن أسباب عنف المحتل، تتوارى للخلف، ولا يعود لها محل من الإعراب. ولن يجد الإسرائيليون أسبابا للحرب، طالما أن المقاومين أغمدوا أسلحتهم.
لقد أمن اتفاق أوسلو الموقع عام 1993، معظم البنود التي وردت في اتفاق الهدنة الأخير. ولم تكن المناخات، عند توقيعه في صالح النضال الفلسطيني. أقيمت السلطة على بعض الأراضي المحتلة، وفتحت معابر غزة، حتى عام 2006، حين استولت حماس على السلطة في القطاع. آنذاك فقط، فرض الصهاينة الحصار مجددا، وذريعتهم في ذلك، أن حركة حماس لا تعترف بالتسوية، وأنها تتمسك بالمقاومة خيارا وحيدا لتحرير فلسطين. ومع اتفاق الهدنة الأخير، برعاية الرئيس المصري، الدكتور مرسي، الذي يعني التخلي عن فكرة المقاومة المسلحة، لم تعد أسباب الحصار قائمة. بمعنى آخر، تساوت سلطة رام الله مع سلطة حماس، في المنطلقات والأهداف والسلوك. والخاسر الحقيقي في المعادلة هو مشروع تحرير فلسطين.
إن نجاح المقاومة في التصدي للعدو، هو بالتأكيد إنجاز كبير، لكن ما تمخض عنه يعيدنا إلى مقاربة حرب أكتوبر 2003، حيث ينجح السلاح وتفشل السياسة، وهو مشابه إلى حد كبير، بالانتقال الحاد في التحالفات السياسية التي سادت مصر قبل حرب أكتوبر، إلى التحالفات التي سادت بعدها. وذلك أمر يبدو أنه ينسحب، على حماس، التي تقود السلطة في غزة. فالانتقال من المقاومة إلى العمل السياسي، سوف يتبعه بالضرورة انتقال في خارطة التحالفات، وهو أمر إن لم يتكشف بجلاء حتى الآن، فسوف تجليه الأيام القادمة.
ومن جانب آخر، يمكننا القول إن الصهاينة نجحوا في زج مصر في شؤون غزة، وهو أمر فشلوا في تحقيقه طيلة عقود الاحتلال. فتحت شعار التضامن مع المقاومة، قبلت حكومة مصر أن تكون راعية للهدنة. وبذلك أضافت إلى عبء التطبيع مع العدو عبئا آخر. وليس من المستبعد أن يتزايد تدخلها في شؤون القطاع، بما يؤمن الهدف الصهيوني الدائم، من إلقاء تبعة إدارة غزة على مصر. وذلك أمر فشل الصهاينة في إقناع الرؤساء السابقين بقبوله، وليس من سبب مقنع لهذا التحول، سوى غلبة الأيديولوجيا السياسية، على القضية.
إن اضطلاع مصر بالوساطة بين الصهاينة وحماس، يكرس تطبيع العلاقة المصرية مع الكيان الغاصب، التي أمل كثيرون أن تتراجع إلى الخلف بعد ثورة 25 يناير 2011. وكان المؤمل أن يكون العدوان على غزة فرصة للتخلص من قيود كثيرة، فرضت على مصر، في مرحلة يفترض أننا تجاوزناها، لكن ما حدث أكد غلبة الفئوية والسياسة ودوغما الأيديولوجيا على المبادئ، بما حقق الفصل الكامل، بين ما حدث في مصر والتطلعات القومية، وفي مقدمتها الانتصار لتحرير فلسطين.
لكن هذه القراءة الداكنة، لا تلغي أن تغيير معادلة الرعب في الصراع مع العدو، قد فتحت بوابات المستقبل لانتصارات أكبر، وأنهت إلى غير رجعة أسطورة الجيش الذي لا يقهر.