الحوار ليس فقط طريقة من طرق التعليم ولا وسيلة لإيصال المعلومة للطلاب بقدر ما هو شرط للعلاقة الأخلاقية العادلة بين المعلمة وطالباتها، وبين الفرد والسلطة، وبين الطالب والمعرفة
الحوار في البيئة التعليمية التقليدية سلوك غريب ومصادم للمألوف، وغالبا أنه لن يمر مرور الكرام. أتحدث هنا عن الحوار الحقيقي لا عن الشعارات التي من السهل ترديدها بدون أن تحدث أي تغيير. أذكر أثناء عملي كمعلم في المرحلة الثانوية وأثناء رواج الدعوات الرسمية للحوار أن وكيل المدرسة زارنا في الصف، وطلب الحديث ليتحدث لمدة ثلاثين دقيقة عن الحوار. أثناء هذه الثلاثين دقيقة لم يتحدث أحد من الطلاب أو يتداخل بأي فكرة أو رأي. مشاركة وكيل المدرسة هنا هي مثال على حوار الشعارات الذي هو في حقيقته سلوك لا حواري. ما أتحدث عنه هنا هو الحوار الذي يعيد ترتيب معادلة وجود ومشاركة الأفراد في التعليم. الحوار الذي يعيد ترتيب العلاقة بين المعلمة والطالبة لتتأسس على المشاركة بدلا من الفرض، كما يعيد ترتيب إنتاج المعرفة وتداولها في المدرسة لتخضع للمشاركة الجماعية والتفكير والنقد بدلا من التلقين والفرض. الحوار الذي أعنيه هنا يعيد تعريف علاقة الطالبات والطلاب بمدرستهم ليصبحوا مشاركين وأصحاب قرار لا مجرد حضور مغترب مسلوب الإرادة.
يقول باولو فريري في كتابه تربية المقهورين: الحوار لا يمكن أن يتم بين أولئك الذين يحلمون بتسمية العالم من جديد وأولئك الذين لا يحلمون بتلك التسمية. ما يريد فريري قوله هنا هو أن الحوار سلوك فاعل ومتفائل وإيجابي لا يمكن أن يقوم به من فقد الطموح والأمل في أي دور خاص في هذه الحياة. هنا يبدو الحوار كمهمة لرفع المعنويات والتشجيع وبث روح الأمل.
هذه النقطة مهمة جدا للمعلم والمعلمة الذين يحلمون بالخروج من العلاقة التقليدية المؤذية مع طالباتهم وطلابهم إلى علاقة عادلة وأخلاقية حوارية. المهمة هنا مضاعفة يمكن وصفها بممارسة الحوار في بيئة لا حوارية. البيئة اللاحوارية هنا تعني ثقافة طويلة الأمد تتمثل في أنماط تفكير وسلوكيات شخصية وتنظيمات رسمية وأشكال معرفية تقوم على تصور رأسي أبوي للعلاقة بين الأفراد. وعي المعلمة والمعلم بهذا الواقع جوهري جدا، فهو أولا سيجنبهم الانخراط في الممارسات الشكلية والشعاراتية للحوار، وفي ذات الوقت يعطيهم تصورا ذهنيا ونفسيا للصعوبات التي ستواجههم. الصورة في الواقع ليست مظلمة بالكامل. أهم عنصر في هذه الصورة هو عنصر نور وأمل لا ينضب. هذا العنصر هو الطالبات والطلاب. من المهم جدا للمعلم والمعلمة إبقاء هذه الثقة في طلابهم وطالباتهم. الحوار هو نتيجة لهذه الثقة تحديدا. الثقة بأن في داخل كل طالب وطالبة قدرة على الفعل والمشاركة والمبادرة. في داخل كل طالبة إنسان يحلم بالمساواة وبالاحترام وبالمعاملة العادلة. في داخل كل طالبة وطالب حلم لدور فاعل في المستقبل. الرسالة الأقوى التي يبعثها الطلاب والطالبات لمن حولهم هي الأمل في المستقبل والثقة في قدومه. الحقيقة أن غالب ما يفكرون فيه هو أحلام للمستقبل. الحوار هنا هو جزء من هذه الأحلام التي يجب الإيمان بإمكانية تحقيقها باستمرار.
يمكن هنا الإشارة إلى أشكال من الصعوبات التي يمكن أن تواجه ممارسة الحوار، منها الخوف المسيطر على الطلاب والمعلم في ذات الوقت. الطلاب والطالبات يخافون من المشاركة، لأنهم يخافون من الخطأ ومن الاختلاف. التعليم التقليدي يجعل من الصمت، ومنه ترديد ما يريده المعلم، الخيار الآمن. الطلاب يأتون غالبا من هذه الخلفية التي تمتد للخارج في كل مؤسسات المجتمع، لذا من المهم هنا إعادة النظر حواريا وبالتدريج في فكرة الخوف من الخطأ وفكرة الخوف من الاختلاف. هذه مهمة جوهرية للمعلم والمعلمة ولا بد من أن يوفروا النموذج والحماية لطلابهم. حين تنطلق روح الحوار لدى الطلاب فإنهم سيمارسونها مع آخرين في المدرسة وسيواجهون إشكالات مع آخرين لا يؤمنون بالحوار ويملكون سلطة قد تؤذي الطلاب. هنا المعلم والمعلمة بحاجة إلى حماية طلابهم واستخدام مثل هذه الحوادث لتوسيع دائرة الحوار في المدرسة.
من العوائق التي قد تواجه ممارسة الحوار أن ينساق الجميع لممارسة الحوار الشكلي أو الصوري. أعني بهذا الحوار ذلك الذي يأخذ صورة الحوار كأن يتحدث أطراف مختلفون، ولكنه يفتقد للتنوع والاختلاف، أو بالأحرى يفتقد للحرية. من السهل جدا أن يحفّز المعلم أو المعلمة الطلاب ليتسابقوا في تأييد أو ترديد ما يريد، هذا ليس حوارا. الحوار يحمل أسئلة واستشكالات. الحوار يحتوي حضور المشاكل والتفكير فيها. الحوار يضع ما يقوله المعلم في دائرة الشك والبحث والتساؤل. في الحوار الحقيقي تنخفض السلطة إلى معدلات متدنية. إن لم تتحقق هذه السمات فإننا لم نغادر مساحة التعليم التقليدي حتى الآن.
ليست هناك وصفة ناجزة لممارسة الحوار في التعليم. ممارسة الحوار تجربة يجب أن يخوضها المتعلمون ويحددوا من خلالها تصورهم وفهمهم الخاص للحوار. الحوار هو مساحة للفعالية والإبداع الإنساني لتنطلق وتبدأ في المشاركة، ليس للحوار غاية وهدف سوى إعطاء الفرصة لكل فرد في ممارسة حريته المسؤولة ووجوده الإنساني مع الآخرين. الحوار ليس له هدف إلا استمرار الحوار. الأفراد لهم أهداف يحققونها من خلال الحوار. الحوار هنا ليس فقط طريقة من طرق التعليم ولا وسيلة لإيصال المعلومة للطلاب بقدر ما هو شرط للعلاقة الأخلاقية العادلة بين المعلمة وطالباتها وبين الفرد والسلطة وبين الطالب والمعرفة. الحوار هنا تحقيق لنظرية في العدالة تعترف بحرية الأفراد ومساواة بعضهم لبعض. الحوار هنا بيئة واعدة باجتماع أكثر حرية وعدالة وكرامة للجميع. الحوار هنا هو موقف أخلاقي تجاه الآخرين يرفض فيه الفرد التجاوز على حقهم في التفكير والتعبير والاختيار والقرار.
حول هذه النقطة تحديدا، أي الحوار كموقف أخلاقي، سيكون المقال القادم ضمن هذه السلسلة من المقالات التي تفكر في أزمة المعلمة والمعلم الذين يعملون ضمن علاقة غير حوارية مع طلابهم وطالباتهم.