منذ الزميل/ سقراط ما تزال العلاقة بين المثقف (المعلم المفكر المختلف) وبين المجتمع (الدولة والجمهور) قائمة على الارتياب من قبل الطرف الثاني؛ ليجد الطرف الأول نفسه مضطراً لإثبات حسن النية اضطراراً قد يستمر أجيالاً بعد وفاته؛ كما في عمنا/ طه حسين!
ومن الحتميات التاريخية أنه لا بد للفكرة من قوة تركزها وتدعمها في السياق الاجتماعي، سواء وجدت هذه القوة في زمنها أو لم تأتِ إلا بعد وفاة صاحبها، فالزميل/ شكسبير ـ مثلاً ـ لم يكتسب قوة التقدير والشهرة إلا بعد ثمانين عاماً من وفاته، وعلى يد بويحث إيطالي كان مضطراً لإنجاز رسالته بأي شكل!
والسؤال هو: ماذا لو أتيحت السلطة لصاحب الفكرة في زمنه؛ سواء بحث هو عنها أو بحثت هي عنه؟
المثال الأشهر في السياق التاريخي العربي هو لعبة الكراسي بين المعتزلة والسلفية التي استمرت قرابة القرنين، كانت كل أمة تحاول سحق أختها!
وعلى الصعيد الفردي حدث هذا للإمام أبي حنيفة ـ أول فيلسوف إسلامي حقيقي ـ وقد رفض أن يلي القضاء لـأبي جعفر المنصور فمات في السجن! ورفض مجايله إمام دار الهجرة مالك بن أنس أن يعمم أبو جعفر نفسه كتابه العظيم (الموطأ) على الأمة؛ لأن ذلك سيعطل فريضة الاجتهاد ويكرس أحادية الرأي!
لكن المثقف ـ في الغالب ـ يصبح أشرس الناس حين يستلم السلطة، وما أكثر الأمثلة في تاريخنا الشرقي التي ترضيك عن الزميل الإنجليزي/ فرانسس بيكون ـ رائد الفلسفة التجريبية ـ الذي كان رجل دولة فاسداً، لا يتورع عن الوشاية بخصومه لتصفيتهم!!
هنا نصل إلى القضية المركزية الثانية التي ارتبط بها اسم طه حسين وما زال موضع ريبة قومه بسببها، ألا وهي: دعوته إلى تحويل المجتمع المصراوي الأصيل إلى جزء من أوروبا في كتابه الشهير (مستقبل الثقافة في مصر) حيث تساءل: ماذا ينقصنا لنلحق بركب الحضارة الإنسانية كما في أوروبا؟ وكان الجواب: العلم ثم العلم ثم العلم! فما إن استلم السلطة وكيلاً ثم مستشاراً ثم وزيراً للمعارف من 1942م إلى 1952م؛ حتى حقق مجانية التعليم، التي دعا إليها بشعاره المعروف: التعليم كالماء والهواء لكل الناس، وأنشأ أعرق أربع جامعات، اضطر أن يدير إحداها بنفسه إضافة إلى منصبه في الوزارة، وهي جامعة الإسكندرية التي تحتفي به اليوم! ناهيك عن آلاف البعثات العلمية في مختلف التخصصات الدنيوية الحيوية! هذا هو التغريب الطحسني: أن ينقل مصر إلى العالم الأول في هذه المدة الوجيزة التي تستغرق البيروقراطية اليوم أضعافها: دراسة في بطن دراسة في بحر الفساد غطاسة، وسط شح الماء، وتلوث الهواء!!
وتخيل مرارة أخرى الألم الطحسني؛ إذ يتهم بتخريب مجمتع أبى أن يتركه ـ كما أشارت لغة الندى وقد فصل من الجامعة ـ ورفض عروضاً من هناااك بعيييد، يسيل لها لعاب أي أكاديمي ومفكر كالدكتور/ محمد أركون؟