محافظة إعلامنا الرسمي وعدم مواكبته للتغيير الجذري في وسائط الاتصال جعلا المواطن ينصرف عنه للبدائل التي ترصد الواقع لحظة بلحظة

دعني أحدثك عني ولو قليلاً:
أنا مواطن محافظ لا أنحاز كثيراً للتغييرات الدراماتيكية، أرغب في المحافظة على المكاسب المضمونة حتى ولو قلّت. ولا أميل للتفريط متطلعاً لما هو أكبر، مما هو في علم الغيب أو المستقبل، أرضى ولو بقليل مأمون من كثير غير مضمون، الذين يعرفونني عن كثب سيدهشهم كلامي هذا لأنهم يعدونني من غير المحافظين ولا التقليديين، بمعنى أنني بحسب رأيهم من المنفتحين الذين يجدون سعة لا يضيقها التشدد، ولا سطوة العادة والتقاليد، كما يجدون مني أنني متهور في المسألة المالية. فأنا مغامر من ذوي وضع البيض كله في سلة واحدة، يا تصيب.. يا تخيب.
لكنني عزيزي القارئ حتى رغم تحفظ أصدقائي المقربين إلا أنني أعتبر نفسي في المسألة الوطنية ملكياً أكثر من الملكيين، وهم ـ أي أصدقائي ـ يعرفون عني ذلك، وفي ظل تشتتهم ونقاشاتهم صاعدة ونازلة، منحازة ومحايدة، يميلون في الآخر للاستئناس برؤية هذا المحافظ التقليدي الذي لا يثور ولا يغير رأيه إلا بحسبان، وهم في جدالهم وأطروحاتهم يحتكمون إليَ أحياناً في نقطة الصفر، ونقطة الخلاف أو منطقة اللاعودة، وأراهم ينقادون ويميلون للموافقة على ما أقره وأقرره، هل تراهم ميالين حقيقة لما أقول، أو أنهم في ظل الشتات والتيه يتمسكون بالموجود الآمن خوفاً من الغائب الغامض.. لماذا أجد أن المواطن سهل الانقياد تجره إشاعة وتكسبه كذبة كبرى، وتغيره هجمة جماعية مضادة؟ لماذا بالمقابل أشعر أن هذا المواطن سهل الارتداد والعودة إلى الرشد، أي الانحياز إلى وطنه، رغم كل شيء؟
إذا كان ما أقوله صحيحا فهذا يعني أن المواطن ابن الصحراء الواضح الساطع لا يميل إلى الغموض، ومن هنا تجده مواطناً عفوياً يختار المباشرة في الكلام، ويحبذ المكاشفة في الإعلام، وعليه فإن جمود إعلامنا الرسمي وغموضه ومحافظته وعدم مواكبته للتغيير الجذري الذي حدث أخيراً في وسائط الاتصال هي التي تجعل هذا المواطن ينحاز للوسيلة التي تبلغه الخبر بشكل أسرع، ومن هنا نجده ينصرف عن إعلامنا الرسمي التقليدي للبدائل التي ترصد الواقع لحظة بلحظة، ومن هنا ولهذا السبب فقد تمكن الأعداء والمتربصون بهذا الوطن من استمالة قطاع عريض من الناس الذين يرون أن المعلومة داخل وطنهم لا تصلهم كاملة، وإن وصلتهم فلا تصلهم إلا متأخرة، على حين يجدونها في غير الوسائل الحكومية التقليدية، فما زال إيقاع الوسيلة الإعلامية الحكومية يسير بخطى السلاحف وبتعقيدات البيروقراطيين التي بمقتضاها تتم تصفية الخبر وترشيحه عبر أطوار عديدة، حتى يتم فسحه ونشره، وذلك بعد أن يصاغ بلغة متحفظة ومترشدة في المعلومة، ثم يتم رفعه للمدير المباشر الذي قد يعدل فيه ثم يرفعه بدوره لوكيل قد يتلكأ في قبوله لكي يسجل موقفاً، فيعيد الخبر للدرجة الأولى من السلم، ثم يعاود الصعود مرة أخرى انتظاراً للموافقة.. وهكذا.
لاحظ أن الخبر خلال هذه الدورة الطويلة قد انتشر في وسائط التواصل الاجتماعي بعد تسربه كمعلومة، ولهذا يصل الخبر الحكومي تماماً مثل العشاء البايت بعد أن تم تداوله والتعليق عليه بين مؤيد ومعارض.
وعليه فإنني رغم ما أبديه من انحياز وطني إلا أنني أؤمن أن كثيراً من سلبياتنا هي انعكاس لمحافظتنا الإعلامية، على نحو يشجع المواطن للبحث عن مصادر بديلة، بل وتشجع الطائفيين والحاقدين وغير الوطنيين لاستثمار المواطن البكر المتعطش لما يظنه الحقيقة بقدر يجعله سهل الانقياد لكل ما هو خارج السياق العام، ولكل ما يظن أنه خارج بطانة الإعلام الرسمي الذي هو في ظنه مجرد إعلام مطبل ومادح ومنافق.
على الإعلام الرسمي أن يعيد صياغة أهدافه ورسائله وأساليبه وأن يكسب المواطن بالمبادرة والشفافية والصراحة، حتى يمكن غلق المنافذ التي يدخل من خلالها المزايدون والناشطون والحركيون والكارهون والمتربصون.