الحياة أقصر من أن نترك من يحبوننا يشربون القهوة وحدهم. عندها فقط سوف تعثر القهوة على طريقها إلى قلوبنا وعقولنا وأرواحنا وسوف تحتفظ دائما بسحرها الخاص

ندين للقهوة بالكثير من اللحظات الجميلة والقصائد الجميلة أيضًا. وللتشارك في شرب القهوة (التقهوي) سحره الخاص حيث تأخذ القهوة طريقها إلى قلوبنا وعقولنا وأرواحنا. فهل مازالت القهوة تمارس علينا سحرها القديم؟
حين تجد القهوة طريقها للرأس يستيقظ العقل. يقول الثبيتي:
أدرْ مهجة الصبح
واسفح على قُلل القوم قهوتك المرة المستطابة
أدرْ مهجة الصبح ممزوجة باللظى
وقلّب مواجعنا فوق جمر الغضا
يقرأ البازعي هذه الأبيات بوصفها دعوة إلى الانبعاث الفكري فنحن إزاء قهوة مرة تدير الرؤوس بتغييرها، ببعث للتفكير الصحيح فيها، باستيلاء الرؤية الصائبة. تنجح القهوة في إيقاظ الوعي وفي طرد الأفكار السيئة و(الطواري الشينة)، ولهذا كان لقهوة تالي الليل مكانتها الخاصة عند الشعراء. يقول السديري: يا بجاد شبّ النار وادن الدلالي... واحمس لنا يا بجاد ما يقعد الراس... وزلّه إلى منه رقد كل سالي وخلّه يفوح وقنن الهيل بقياس.
تفرض قهوة بجاد حضورها الباذخ وهي تأخذ كل ما تستحقه من وقت لإعدادها وشربها والحديث عنها. يجلس بجاد أمام المعاميل والنار المشتعلة وقد ارتسمت خرائط من العرق على ثوبه الملتصق بظهره ويبدأ بتجهيز القهوة بركادة, يرفع المحماس عن لهيب النار كي لا تحترق القهوة وهي مازالت نيئة، ثم يسنده على الجمر المكتسي بطبقة من الرماد ويستمر في تحريك القهوة بهدوء شديد.. أي حلم يقظةٍ لذيذٍ يستغرق فيه بجاد وهو يرقب حبات القهوة وقد تغير لونها؟! في مشهد يزيد من يقيني بأن القهوة لم تكن يوما مجرد قهوة، وأن إعداد القهوة أمام من سيشربونها ممن تحبهم يوازي لذة شربها، وأن العبرة في القهوة ليست بالمعاميل بل براعي المعاميل أو راعيتها.
القهوة تذوب في القلب حين يكون القلب محظوظا بوجود الأحبّة. وكما غنّى فتى نجران: يا ما حلا الفنجال من كفّ صافية الجبين...تسلم يمين سقتني الهنا دون الوله. دلّة بغدادية وفنجال من الصين وثالثهما الخلاص الحساوي روعة لا تحتمل.. مثل عاشق تعتريه دهشة الفلاسفة وهو يرفع رأسه إلى السماء فيرى القمر كامل الاستدارة متناهي الكبر في صفحة السماء، ثم يدني رأسه فيرى صورة القمر كامل الاستدارة متناهي الصغر في صفحة فنجال القهوة في يده، ثم يلتفت عن يمينه ليرى ثالثهما في لحظة من اللحظات التي يُقايَض بها العمر كله!
وفي بعض الأحيان حين يكون القلب مجروحا بفقدهم فإن القهوة تذيب القلب. فالقهوة تذكرنا بالراحلين – هذا إن فارقوا البال أصلا – قهوة بريّة يمنية تشبه في صفائها ماء السيل.. رائحة الهيل الهندي.. نكهة الزعفران الإيراني.. لسعة حرارة الفنجال الأول ..أمور كفيلة باستحضار بعض المشاعر. مشاعر تسكن في أعماق القلب قد نتجاهلها أو نتناساها لكن القهوة تستدعيها بهدوء في صورة تيار دافئ خَدِر نترشفّه بصمت مع كل فنجال، ولهذا تحلو السجّات مع القهوة.
تجد القهوة طريقها إلى الروح فهي تتقن لغة الأرواح جيدا، تقول نبيلة الخطيب: حين طلبتُ القهوة، حتى لا أرحل وحدي، خلف الوعي، وفوق المحسوس، وعند محمود درويش تذهب القهوة إلى أعمق ما يمكنها الوصول إليه حين تكون شاهدا على إنسانية الإنسان: أيها الواقفون على العتبات ادخلوا، واشربوا معنا القهوة العربية، فقد تشعرون بأنكم بشر مثلنا.
لكن القهوة قد تضلّ طريقها إلى قلوبنا وعقولنا وأرواحنا ويتمّ اختزالها إلى سائل يملأ المعدة لا أكثر. يحدث ذلك حين يقف الشاب في طابور طويل ينقّل بصره بين شاشة جواله وبين وجوه الغرباء من أجل كوب من القهوة ويعود إلى البيت ليقول لوالده حين يدعوه لشرب القهوة: متقهوي وخالص. تُمضي الفتاة نهارها كله في الجامعة تتنقل بين محاضراتها وهي تحمل كوبا ورقيا بطول ذراعها ثم تعود إلى البيت متقهوية وخالصة. تفضّل المعلمة قهوة زميلاتها على القهوة في بيتها، ويفضّل الرجل قهوة عامل الاستراحة على قهوة زوجته. إنها تلك المواقف الصغيرة التي في كلّ مرة يقال فيها: متقهوي وخالص تضلّ القهوة طريقها إلى القلب وتهبط نحو المعدة بعنف.
ما الذي تغير في حياتنا؟ ما الذي أفقد القهوة ميزتها كفعل تواصلي. (التقهوي) لا يمكن إلا أن يكون فعل مشاركة من اثنين فأكثر، ولذا فإن ترك الشايب وحيدا مع ترمس القهوة الصغير وفناجيل زجاجية لا يحبها وصينية من الميلامين إنما يضاعف من شعوره بالوحدة. كيف نبرّر لأنفسنا تركه وحيدًا مع القهوة؟
تضلّ القهوة طريقها وتفقد سحرها حين يتم التفكير في الأهداف النفعية المباشرة لشرب القهوة: تخفيف الصداع، تنبيه الدماغ، تسخين الجسد...وفي هذه الحالة فإن أي (كوفي شوب) سوف يفي بالغرض. وسوف يكون الطابور الطويل والسعر المرتفع وتحديق الغرباء أمور لا أهمية لها، بل قد يتمّ التغاضي أيضا عن طعم القهوة نفسه فهي قهوة ذات ماركة عالمية وإن لم يعجبك طعمها الصدئ فالعيب فيك وليس فيها. وحين يتجرأ أحدهم ويعبّر عن اعتراضه على سعرها المرتفع أو طعمها السيئ ينبري أصدقاؤه للدفاع عنها: يا أخي روح أقرب بوفيه هات لك شاي عدني بريال وتعال، أو قد يقال له: يعني لأنك ما تقدر تأكل مع هالكوفي من التمر اللي تكنزه أمك؟!، هكذا يُعيّر من لا يستطعم هذه القهوة (العالمية) بجيبه الخاوي أو أمه القروية، هكذا يُتهم من تسوّل له نفسه التشكيك في جودة هذه القهوة الراقية بفساد الذوق أو البخل أو تدني المكانة في حالة من الدفاع المجاني الرخيص عن شركة أمريكية لا تدري – ولا يهمّها أن تدري – أن الماكينة الصدئة قد تُترك دون غسل لأيام. نعم هذا ما يحدث حين يتحول (التقهوي) إلى فعل غائي وظيفي تتحول معه القهوة إلى سائل بنّي اللون تنزفه ماكينة مهترئة في كوب طويل من الورق أو كوب ضخم من السيراميك. هذا ما تفعله الشركات الكبرى حين تسرق التفاصيل الثقافية الصغيرة وتضعها في أكشاك قبيحة.
سوف يذكّرنا التغني بالقهوة دائما بأن الفارق كبير بين قهوة تُقْعد الرأس وقهوة تقعُد على الكبد، بين قهوة تستثير الذكريات وقهوة تثير الضجر، سوف نفهم الرسالة الضمنية التي امتلأت بها قصائد الأولين بأن العبرة في القهوة بمن يشاركك في إعدادها وشربها والتحدث عنها، إذ عمر القهوة ما كانت قهوة ، والحياة أقصر من أن نقضيها في التقهوي بين الغرباء أو مع أصدقاء لن يُبكيهم غيابنا. الحياة أقصر من أن نترك من يحبوننا يشربون القهوة وحدهم. عندها فقط سوف تعثر القهوة على طريقها إلى قلوبنا وعقولنا وأرواحنا وسوف تحتفظ دائما بسحرها الخاص.