صنعاء: صادق السلمي

الرايات السوداء تسقط في أبين.. حرب مفتوحة بين الحكومة وفلول التنظيم

خلال الأشهر القليلة الماضية طرأ تطور استثنائي في إطار الحرب على الإرهاب في اليمن، إذ بعد نحو عام على سيطرة جماعة أنصار الشريعة، المرتبطة بتنظيم القاعدة على مناطق واسعة من محافظة أبين بسبب تراخي القبضة الأمنية للرئيس السابق علي عبدالله صالح، وجدت القاعدة نفسها وجها لوجه في حرب شرسة أراد من خلالها الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي أن يثأر لكرامة الجيش والدولة، وهي الكرامة التي أهدرها النظام السابق عندما سلم المحافظة لـ القاعدة من أجل مواجهة غضب انتفاضة قادها الشباب من أجل التغيير، وتحولت إلى ثورة بهدف إسقاط النظام، فنجح هادي في طرد التنظيم من المعاقل كافة التي كانت تقع تحت سيطرته، وسقطت الرايات السوداء، شعار القاعدة من هذه المعاقل، وبالتالي سقوط مشروع القاعدة في أرض المدد في اليمن.
لم يكن تنظيم القاعدة يتصور أن العمليات الأخيرة التي نفذها قبل طرده من أبين وشبوة، وجاءت كردة فعل على الانتصارات التي حققها الجيش ضد التنظيم في مواقع عدة في هاتين المحافظتين، يمكن أن تجعل صورته مشوهة إلى هذا الحد، فبعد عدد من العمليات التي استهدفت الجنود اليمنيين في عدد من المناطق، كان آخرها تلك التي أوقعت أكثر من 400 بين قتيل وجريح في مذبحة السبعين في العاصمة صنعاء أثناء تدريباتهم لعرض عسكري، بدا أن صورة تنظيم القاعدة اهتزت لدى المواطن البسيط الذي بدأ ينظر إليه كتنظيم دموي، وأن ضرباته موجهة إلى اليمنيين أكثر من كونها موجهة ضد العدو الافتراضي في أدبيات التنظيم.
تفاخر بالقتل
لن يجد تنظيم القاعدة ما يفاخر به بعد العملية التي استهدفت الجيش في ساحة السبعين في قلب العاصمة صنعاء، فقد كان الهجوم الذي استهدف الجنود في الميدان في الحادي والعشرين من شهر مايو الماضي، ضربة قاصمة للتنظيم، الذي ملأ الدنيا حديثا وتصريحات ومواقف عن استهداف أعداء الأمة الإسلامية والعربية؛ فيما كل العمليات التي نفذها على مدار عام كامل من المواجهات في اليمن لم تسفر عن مقتل عدو أمة واحد، على الأقل بمفهوم التنظيم، وعوضا عن ذلك تسببت العمليات التي نفذها التنظيم في مقتل المئات من الجنود اليمنيين، بعضهم ذبح كالخراف، مثلما حدث في منطقة دوفس في أبين في شهر فبراير الماضي، عندما تم جز رقاب الجنود بالسكاكين بعد مباغتتهم في مواقعهم العسكرية وهم نيام..
خسارة التعاطف
لقد خسر تنظيم القاعدة ما تبقى له من تعاطف عند بعض الناس، فقد أدرك اليمنيون أن التنظيم وجه سلاحه إلى صدورهم وليس إلى صدور أعداء الأمتين العربية والإسلامية، إذ لم يتم الإعلان عن أي عملية نفذت ضد أعداء الأمة الإسلامية، كما يدعي التنظيم، واتضح أنهم يسعون إلى الحكم والحلول محل الدولة، مثلما حدث في محافظة أبين عندما أنشؤوا إمارة وقار الإسلامية، عوضا عن جعار، وبدؤوا بممارسة مهام الدولة في مجال القضاء والأمن وغيرها من المجالات.
ووسع تنظيم القاعدة رقعة عدائه لتشمل الحوثيين في صعدة، بعدما نفذ عمليتين انتحاريتين في كل من الجوف وصعدة، حيث لم يكن في المكانين اللذين نفذتا فيهما أي عدو للأمة الإسلامية، بل كان هناك مواطنون يمنيون، من بينهم امرأة وطفلها، وجميعهم يدينون بالولاء للإسلام، لهذا حاول التنظيم أن يخفف من وطأة الصدمة التي أصابت المواطنين بعد حادثة السبعين، من خلال الحديث عن أن التفجير كان يستهدف قادة الحرب الأميركية ضد أعضاء التنظيم في أبين، وأن هناك اختراقا للجماعات الجهادية، وهو تأكيد على أن التنظيم لم يعد محصنا ضد الاختراقات، سواء في أبين أو غيرها من المناطق.. لقد دفع تنظيم القاعدة ثمنا للاستعجال في التخلص من خصومه، وخسر الكثير من التعاطف الذي ظل يحظى به في أوساط واسعة من اليمنيين لبعض الفترات، خاصة بعد أن اتجه سلاحه إلى صدور الأبرياء من اليمنيين أنفسهم.
مرحلة خطيرة
يجتاز تنظيم القاعدة في اليمن هذه الأيام مرحلة خطيرة من مراحل حضوره في الساحة، فبعد أشهر قليلة من كشف وثائق تظهر قلق بن لادن من انهيار شعبية التنظيم في البلاد الإسلامية ومعارضته لخطط تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب في اليمن استهداف المدنيين وأفراد الجيش والأمن فيه، تكرس الأخطاء القاتلة التي وقع ويقع فيها التنظيم، خاصة في ذروة المواجهات بينه والجيش في أبين وشبوة وحضرموت والبيضاء ومأرب وحتى في صنعاء العاصمة، مخاوف بن لادن من اتساع خسارة التنظيم لتعاطف اليمنيين، وهو التعاطف الذي كان يتكئ عليه التنظيم في كل تحركاته. ويؤكد مراقبون أن تنظيم القاعدة الذي طرد من محافظة أبين وشبوة بعد أن خاض معركة شرسة مع قوات الجيش منذ استيلائه على عدد من المناطق بعد تراخي قبضة نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح أثناء الاحتجاجات التي شهدتها البلاد العام قبل الماضي، بدأ يخسر أكثر وأكثر، مما يتيح للجيش فرصة تتبعه إلى كل مكان تلجأ إليه عناصره.
هيبة الدولة
وبدا أن الطريقة التي أدار بها التنظيم بعض مناطق محافظة أبين، هي التي دفعت بالمواطنين إلى الالتفاف إلى جانب الجيش في مسعاه من أجل القضاء على التنظيم واستعادة هيبة الدولة التي فقدت خلال العام الماضي؛ فاللجان الشعبية التي خاضت معارك شرسة إلى جانب الجيش في حربه ضد القاعدة، أكدت أن مثالية النموذج الذي قدمه التنظيم للناس في أبين لم تصمد كثيرا. وتكمن خطورة المرحلة التي يمر بها تنظيم القاعدة في الوقت الحاضر، في أن مشروعه فشل في استقطاب المجتمع المحلي، بعدما قدم نفسه باعتباره منقذا وبديلا جيدا للرئيس السابق ونظامه، إلا أنه على أرض الواقع أثبت أنه لا يزال يعيش موروث النظام السابق نفسه.. من هنا يمكن القول إن تنظيم القاعدة حاول سلخ جلده في بداية الأمر ليقدم نفسه كبديل أفضل عن النظام، إلا أن ذلك لم يدم طويلا، فالقتل الذي مارسه التنظيم بحق أفراد الجيش والمواطنين على السواء قدمه كنموذج مخيف إذا ما نجح وأمسك بالأوضاع في البلاد.. وجاءت شواهد على عدم قدرته على تقديم نموذج مختلف عن النظام السابق لتغرقه في دوامة من السياسات التي حولته إلى نسخة مشوهة من نظام سيئ اعتاد على معالجة الخطأ بالكوارث طيلة فترة حكمه للبلاد الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود، والدلائل على ذلك كثيرة، بدءا من غض الطرف عن نشاط التنظيم في فترة سابقة من اندلاع الثورة الشعبية العام الماضي في أكثر من مكان مستغلا فوبيا القاعدة لدى الغرب والولايات المتحدة الأميركية، وليس انتهاء بتسليمه المناطق الجنوبية من البلاد ليؤكد أن البديل القادم للنظام سيكون أسوأ.
الأشواط الأخيرة
بعد النجاحات الكبيرة التي حققها الجيش اليمني في معركته ضد تنظيم القاعدة، والشجاعة التي أبداها الرئيس عبدربه منصور هادي في اتخاذ قرار المواجهة، بالرغم من الانقسام الواضح والبيّن في صفوف الجيش والأمن بسبب الأحداث العاصفة التي مرت بها البلاد، يمكن القول إن المعركة بين الجيش وتنظيم القاعدة بمختلف مسمياته، سارت في الطريق الصحيح رغم الكلفة الباهظة لهذه الحرب، فالمناطق التي تركها التنظيم مدمرة بالكامل وتحتاج إلى إعادة بناء من جديد، مع ملاحظة ضعف إمكانات الدولة، فالقاعدة لم تجد في معاركها العديدة مع النظام السابق مثل هذا الإصرار على إغلاق هذا الملف وإعادة الحياة الطبيعية إلى البلاد، والتي افتقدتها لأكثر من عام.
المعركة لم تنته
مع ذلك فإن كثيرين لا يريدون الإفراط في التفاؤل في انتهاء المعركة الطويلة مع القاعدة، فهم يدركون أن ما يعتمل اليوم في الساحة اليمنية ربما يغذي تنامي نشاط القاعدة في مناطق مختلفة من البلاد، استنادا إلى حال الانقسام الذي تشهده البلاد وعدم قدرة الأطراف السياسية بمختلف مكوناتها على الاتفاق على رؤية موحدة للخروج من طاحونة الأزمات المتلاحقة على أكثر من صعيد.
الفراغ الذي يمكن أن يحدثه الانقسام السياسي، فضلا عن انقسام المؤسستين العسكرية والأمنية، على الوضع العام في البلاد سيفقد الدولة النصر الذي يتحقق على الأرض مع مرور الوقت. من هنا لا بد من دفع الأمور في اتجاه التوافق السياسي الحميد، الذي يرسخ هيبة الدولة الواحدة من خلال البحث عن شكل من أشكال الحل السياسي الذي يقضي على الترهل الذي أصاب جسد الدولة خلال العقود الماضية من حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، والبدء بإعادة بناء نظام سياسي مرن قادر على استيعاب الجميع والتعاطي مع المعطيات الجديدة وفق رؤى جديدة ومختلفة، نظام يكون قادرا على معالجة النتوءات التي بدأت بالبروز بعد تحقيق الوحدة، وبخاصة منذ الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد خلال عام 1994، وهي الحرب التي أسست لأعقد الأزمات التي يعيشها اليمن في الوقت الحاضر.
المعركة المفتوحة
تساور اليمنيين مخاوف من نقل تنظيم القاعدة معاركه مع الدولة اليمنية، من ساحات المدن المغلقة إلى ما يشبه الحرب المفتوحة التي يتنافس فيها كل طرف في استخدام أدواته الأكثر تأثيرا في معترك المواجهات بين الطرفين.
ودشن تنظيم القاعدة إستراتيجية قتالية بديلة للعمليات العسكرية الميدانية بعد فقده للكثير من مقاتليه ومعداته الحربية النوعية واضطراره للانسحاب من محافظات كانت مغلقة لصالح مقاتليه مثل زنجبار، جعار في أبين وعزان في شبوة، ليبرز مجددا كطرف ثان في الصراع المحتدم عبر تنفيذه لهجمات انتحارية متفرقة ومتزامنة وعمليات استهداف مسلح لمنشآت أمنية وشخصيات أمنية وعسكرية وحكومية، بالتزامن مع تصعيد مقابل من قبل الحكومة اليمنية لحملات التمشيط والتعقب الاستخباراتي كإجراء مضاد.
ويرى خبراء في شؤون القاعدة أن لجوء تنظيم القاعدة إلى اعتماد إستراتيجية الحرب المفتوحة التي ترتكز على أسلوب شن الهجمات المباغتة والمتزامنة ذات الطابع الانتحاري بعد ظهوره كطرف في حرب ميدانية ضد القوات الحكومية وفرق اللجان الشعبية دارت رحاها لأشهر داخل مدن مغلقة واتسمت بكونها أشبه بمواجهات مسلحة بين جيشين نظاميين استخدم كل منهما أسلحة ثقيلة ومتوسطة لتحقيق الحسم العسكري يمثل انعكاسا لتراجع حضور التنظيم العسكري في اليمن بعد اندحار فلوله من مدن كانت تحت سيطرته لأكثر من عام.
تسجيل الحضور
ويرى هؤلاء أن الهجمات الانتحارية المكثفة والمتزامنة التي نفذها تنظيم القاعدة مؤخرا في محافظات مثل الضالع وصنعاء وعدن وشبوة، استهدفت مجرد تسجيل الحضور وإثبات القدرة على الفعل بعد الهزائم المتلاحقة التي لحقت بمقاتلي التنظيم في جبهات القتال في أبين وشبوة. مع ذلك فإن خبراء يحذرون من إمكانية لجوء التنظيم إلى تنفيذ عمليات استهداف نوعية ومؤثرة من قبيل تنفيذ مخطط لاغتيال شخصيات سياسية وعسكرية بارزة على غرار عملية اغتيال قائد المنطقة الجنوبية اللواء الركن سالم قطن التي وقعت في مدينة عدن قبل أكثر من أسبوعين، أو شن هجمات انتحارية ضد منشآت حيوية في البلاد، معتبرين أن تنظيم القاعدة اتجه منذ اندحاره من أبين وشبوة إلى تنفيذ هجمات انتحارية بدوافع انتقامية.
ويعتقد هؤلاء أن فقد تنظيم القاعدة لما يسمى ولاية أبين بعد عام من سيطرته المطلقة على مدن رئيسة فيها مثل زنجبار وجعار واضطراره للتخلي القسري عن إمارة عزان بشبوة بعد حصارها من قبل الجيش وفرق اللجان الشعبية، إلى جانب خسارته لقيادات بارزة في صفوفه، دفعت التنظيم الى اللجوء لشن هجمات انتحارية ذات طابع انتقامي دون التوقف عند الاعتبارات المتعلقة بطبيعة الخسائر التي تخلفها هذه الهجمات.
الاستخبارات والخلايا النائمة
ويشيرون إلى أن التنظيم قد يلجأ إلى تنفيذ مخطط لاستهداف قيادات سياسية وعسكرية وأمنية في عدد من المدن. وتنفيذ عمليات استهداف لمنشآت حيوية في الغالب واغتيال قائد المنطقة الجنوبية ومحاولة اغتيال محافظ شبوة واستهداف منشآت أمنية في الضالع وعدن ليست سوى بداية تصعيد جديد من قبل القاعدة لتهديداتها. ويؤكد الخبراء أن الحرب بين الحكومة اليمنية وتنظيم القاعدة انتقلت فعليا من ساحات المدن المغلقة إلى الحرب المفتوحة، وأن تحقيق الحسم في هذه الحرب من قبل الحكومة مرهون بمدى قدرتها على توظيف إمكانات الأجهزة الاستخباراتية في الكشف عن مخططات القاعدة وتنفيذ ضربات استباقية وإلحاق خسائر في صفوف قيادات الصف الأول في التنظيم. ويؤكدون أن تنظيم القاعدة سيلجأ بالضرورة إلى تحريك وتفعيل خلاياه النائمة، وهو ما سيمثل تحديا إضافيا للحكومة اليمنية التي ستواجه تهديدات حقيقية تتمثل في شن هجمات من قبل خلايا التنظيم داخل العاصمة وبعض المدن الرئيسة الأخرى مثل عدن وحضرموت.