فكرة عدم التقنين غير قابلة للاستمرار، وتنتمي للعصر الماضي، ولا يمكن الاستمرار على هذا الوضع في القرن الواحد والعشرين، فالدول والمجتمعات لم تعد بدائية، وتعالج الأمور بعفوية واجتهادات فردية وشخصية

عندما يرغب وزير ما في تطبيق وفرض النظام في موضوع يهم الناس، فإنه لا يمكن تصور ذلك طالما أن النظام غير موجود أصلا!، فعندما وجّه وزير التجارة والصناعة بإلزام المحلات التجارية أن تسترجع أو تستبدل البضائع، فهو اجتهاد مشكور منه، ولا أدري هل لديه مستند قانوني على ذلك أم لا؟، حيث قد تلجأ بعض المحلات للقضاء ويأتي قاض ويُبطل هذا الأمر الوزاري كون البيع لازم بين المتبايعين في الفقه الإسلامي (طبعا في حال لم يكن هناك قصور في البضاعة)، ولعدم وجود نظام يستند عليه ويحدد مسؤوليات البائع أو على الأقل نظام لحقوق المستهلك. هنا نجد أن وضع الأنظمة ـ التقنين ـ ركن رئيس في استقامة الأمور وفرض النظام على الناس، ولكن وللأسف هذه الحاجة لم يُعترف بها حتى الآن!.
كثيرا ما تطرقت لموضوع تقنين الشريعة في عدة مقالات، والتي أرجو أن تصبح نواة كتاب في هذا الموضوع بإذن الله، وفي هذا المقال أودّ التركيز على علاقة وتأثير منع التقنين للشريعة في صعوبة فرض النظام في البلد، الأمر الذي قد يؤدي إلى الفوضى وعدم القدرة على تحديد النظام ومن ثمَّ فرضه.
الحقيقة أن فكرة عدم التقنين غير قابلة للاستمرار، وتنتمي للعصر الماضي، ولا يمكن الاستمرار على هذا الوضع في القرن الواحد والعشرين، فالدول والمجتمعات لم تعد بدائية وتعالج الأمور بعفوية واجتهادات فردية وشخصية، ويجب أن تكون هناك خطوة جريئة نحو حسم الموضوع والشروع في التقنين بأسرع وقت.
للأسف، إن كثيرا من جامعاتنا تعمل في طريقة التعليم لديها على آلية التلقين لطلابها، ومنهج اختباراتها هو أشبه بالتسميع لما حفظه من كتب، وليس بناء على امتلاك الطالب لآليات وقدرات جيدة في المجال الذي يدرسه، مما أدّى إلى أن تصبح العادة والاعتياد على الشيء ركنا رئيسا في توجيه مسار العديد من الآراء الدينية لدينا، وبالتالي ينطبق الأمر على القضاء الشرعي أيضا. فبالرغم من المعارضة لتقنين الشريعة، إلا أنه يتم العمل بالكثير من التشريعات النظامية التي هي في حقيقتها تقنين! كما إن هناك عددا من الفتاوى التي اختلطت بالنظام، وأصبحت ملزمة للقضاة في أحكامهم، الإجراء الذي ينطبق عليه ذات السبب الذي مُنع التقنين من أجله (وهو منع الاجتهاد)! وقد سبق وأن كتبت في علاقة الفتوى بالقضاء والقانون بعنوان (الفتوى بين الرأي والقانون).
وفي مثال آخر يوضّح أهمية التقنين، فلو أن أحدهم ضمن آخر غُرميّا، وكان الضمان محددا بمدة محددة كشهر أو سنة، ثم بعد انتهاء تلك المدة بفترة طويلة، جاء المضمون له ليطالب الضامن بالمبلغ المضمون، فهل سيحكم القاضي له بالضمان مع أن مدة الضمان قد انتهت؟
هذه المسألة وإن كان جمهور الفقهاء على جواز التوقيت وصحة شرط الضامن هنا، إلا أن المسألة خلافية بينهم، وفي المذهب الحنبلي روايتان، إحداهما بعدم جواز توقيت الضمان، كون المبلغ المضمون أصبح دينا في ذمة الضامن، ولا يسقط إلا بالأداء، وبالتالي فإن احتمال حكم القاضي على الضامن بالمبلغ وارد إذا اختار القاضي ذلك القول، بالرغم من ضعف هذا القول وأنه يخالف شرط الضامن! وقد يكون المبلغ بمئات الملايين! وهذا بسبب عدم وجود نظام ملزم، مع حرية القاضي في اختيار ما يراه من أقوال الفقهاء، ولو حكم القاضي بهذا فستكون كارثة! ولهذا السبب، فإن لجوء كثير من القطاعات في الدولة إلى اللجان شبه القضائية التي تزيد عن مئة لجنة شبه قضائية أمر ضروري للأسف، لأجل الحاجة الماسة لوضوح النظام الذي يمكن من خلاله بناء الهيكلة المالية والاقتصادية للبلد، ولو ترك الخيار في هذه المسألة للآلية التي تسير عليها المحاكم ـ في قضايا البنوك ـ لربما انهارت عدة بنوك في يوم وليلة!، حيث إن كثيرا من أعمالها مبنية على التوقيت في الضمان.
وعند التأمّل في هذه الآلية الغالبة في محاكمنا، فإن المسؤولية كلها في الحقيقة تُلقى على عاتق القاضي الفرد، الذي يجتهد في كل شيء، فهو يبحث في فهم وقائع القضايا، ثم يبحث عن تكييفها الفقهي، ثم يعود إلى كتب الفقه ليجتهد فيما يراه (وهذا قد يُوصف بوضع واختيار للنظام)، ثم يحكم بعد ذلك! وهذا جهد وعبء كبير لا يُحسد عليه، كان الله في عونهم.
إذًا نستطيع أن نلمس وضوح النتيجة في عدم التقنين، حيث تُفضي إلى سلطة موسّعة للقاضي لا حدود لها، مما قد يؤدي إلى اختلال في النظام وضياع للحقوق من خلال الجهل بالنظام، كما أن عدم وجود نظام واضح يؤدي إلى بقاء أمور كثيرة تهم الناس بلا تنظيم!، ولا يمكن للسلطة التنفيذية أن تفرض النظام من دواوين فقهية قد لا يُعرف هل سيحكم القضاء بها أم لا؟