في الجامعة كان لدينا عميدة كنا نلقبّها بالجميلة النائمة، فاليوم الوحيد الذي يمكن أن نراها فيه هو يوم تخرجنا، لذا عندما تحدث لنا مشكلة مع أستاذة أو نعاني من الوجبات مرتفعة السعر في الكافيتريا التي كان يتم استغلالنا عبرها أو نشتكي من رداءة المباني وتصدع جدرانها كنا نجد الخالة سارة تسد الباب بجسدها الضخم معلنة أنها قادرة على القيام بمهامها كاملة، وهي دفع الطالبات بعيداً عن حرم العميدة! لماذا أذكر ذلك هنا وفي هذا المقال بالذات؟ في الحقيقة ليس فقط لأنني بصدد التحدث عن عميد أو مدير، كما يلقب المسؤول الأول في جامعاتنا حالياً، ولكن أيضاً لما يفعله هذا المدير أيضاً، والذي يشبه نفي الخالة سارة إلى المريخ مثلاً. هذا المدير هو من عنونت مقالي باسمه، وأعني به الشيخ الدكتور محمد العقلا مدير الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم. أقول: إذا أردت أن تعرف من هو مدير جامعة ما فابحث عمّا يقوله طلابه، إنهم الشباب، والشباب هي الفترة التي تتميز بالصراحة والقوة والاندفاع وعدم الاهتمام بالنتائج، وهذا بغض النظر عن صحته يعطينا على الأقل سهولة في استنباط الحقيقة. لذا عندما أردت أن أقرأ عن الدكتور محمد العقلا حرصت على قراءة ما يقوله الطلاب لا غيرهم، وهالني ما قرأت. قصص عن ليالٍ يتعشى معهم في غرف السكن بجبن وزيتون وزعتر... عن سيره بين الكليات وحيداً ليجد كل زميل له في الكلية من عامل النظافة للوكيل فرصته للحديث معه... عن صلاته الظهر في وسط الطلاب. قرأت كذلك عبارة جميلة يذكر فيها أحد الطلاب أن أحداً ما قال له: كم يشبه مبنى العمادة وكثرة الطلاب فيه المبنى الذي كان فيه ابن باز - رحمه الله - عميداً والطلاب حوله.
محمد العقلا لم يفتح باب مكتبه فقط، لكنه قدم مبادرة رائعة وهي تتمثل في استضافة القيادات العليا في المملكة داخل حرم الجامعة، ودعوة كل من أراد للتواصل معهم، فكان من ضيوفه ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز وعدد كبير من الوزراء، فكان الضيف يجلس في المدرجات ويتواصل وجهاً لوجه معنا نحن المواطنين السعوديين، فالدعوة مفتوحة والحضور من كافة فئات المجتمع. لقد فتح الدكتور للناس في المدينة قناة تواصل يطرحون فيها معاناتهم كما فتح للمسؤول طريقاً يوضح فيه ما قد يخفى على الناس ويجعله أي مغرض وقوداً لفتنة ما.
العقلا جعل من الجامعة الإسلامية شريكاً نافعاً، ليس لأهل المدينة المنورة فقط بل للمملكة العربية السعودية. ومن المسؤولين الذين تمت دعوتهم وزير التخطيط والاقتصاد الدكتور (الفتى) محمد الجاسر، وأقول فتى لأن معالي الوزير نوّه في اللقاء الذي رعته الجامعة يوماً بأنه ما زال فتى، خاصة عند تداخل زملاء دراسة له أدركهم المشيب، عموماً ابن قتيبة - رحمة الله عليه - يقول: إن الفتى بمعنى الكامل الجزل من الرجال، والشاعر يقول: إن الفتى حمّال كل ملمة/ ليس الفتى بمنَعَّم الشبان.. تلك الليلة التي حضر فيها الوزير وتداخل معه العديدون في نقاط تهمنا كمواطنين وضحت كم يجب أن يكون معالي الوزير حمّال كل ملمة.
جاء الوزير ومعه أرقام وأرقام تتنبأ باقتصاد سعودي قوي. كما حرص الوزير على المصارحة؛ فسمعنا منه السبب الحقيقي لمسألة ارتباط الريال بالدولار، ووضح الرجل فائدة ذلك اقتصاديا، وهذا الموضوع وحده يبين أهمية مثل هذه اللقاءات في توضيح ما يخفى على الناس وقد يُستغل، وبخاصة أن الجميع يضع رأيه في تويتر وفيس بوك ومنتديات الإنترنت دون رقيب أو حسيب. كما ذكر الوزير أننا حصلنا على المركز الأول على مستوى العالم في دخول طلاب الثانوية للجامعة, في الواقع لا أستطيع أن أفرح بما أعلنه معالي الوزير لأنه وإن بدا ذلك إنسانياً رائعاً ومميزاً، حيث تستطيع كل فئات المجتمع الحصول على مقعد جامعي، لكن ذلك ليس جيداً مطلقاً اقتصادياً؛ لأنه إذا أردت أن تحظى باقتصاد جيد فلا بد من أن تكون فاتورة الصادرات أعلى من فاتورة الواردات، بمعنى أن يصبح لديك منتج تبيعه، والمنتج يحتاج لعامل، وفي مقابل كل مهندس تخرجه من الجامعة تحتاج لما لا يقل عن أربعين عاملاً. وهنا قد يقول قائل: الشباب السعودي غير قادر أو غير راغب في أن يكون عاملاً، وهذا غير حقيقي ويفنده الواقع، فإننا في رمضان والحج في منطقة الحرم المكي نركب مع شباب سعودي يعملون سائقين في المواسم؛ لأنها تدر عليهم دخلاً جيداً، يعملون لساعات طويلة وفي أجواء متعبة ويحتملون، كما أن هناك شباباً يعملون في أرامكو حراس أمن وعمالاً في الصحارى والحفر، يتلوثون بالزيت وتلوّن وجوههم الشمس، كما أننا نرى شباباً وفتيات يعملون في صافولا بائعين ومراقبين وخبازين. إن هذه الأعمال والشركات وفرّت لهم دخلاً محترماً وساعات محددة، وبعضها وفر سكناً وقيمة اجتماعية؛ لذا لم يعبؤوا بالعمل أياً كانت طبيعته ما دام حلالاً.
أعطِ شبابنا ذلك ولن يرفضوا أن يحفروا وينقشوا على الصخر، لكن أن تعطيه إذا عمل عاملاً في مصنع ألفي ريال دون ساعات عمل محددة أو مواصلات ثم تقارنه بعامل من بلد لا تعاني من غلاء المعيشة؛ سيقول لك الشاب لا، وسيكمل الجامعة ويتخرج عاطلاً!
هناك دراسات تؤكد زيادة أعداد العاطلين؛ لذا فإن التحرك على جميع المستويات ضروري، ليس فقط بالتخطيط ولكن بقرارات تدعم هذه الخطط، وبرأيي مهما كانت القرارات بالغة القوة فلن يذهب التجار ورجال الأعمال بعيداً، فبلادنا هي الأنسب في الاستثمار عالميا.