نحن لسنا في عام 2005 أو ما حوله من تلك الأعوام التي كانت فيها القضايا الأبرز والأكثر تداولا في محيطنا السعودي قضايا محلية خالصة، كنا نتناقش حول قضايا المرأة والعمل والشباب وصراع التيارات. اتخذ الحوار الوطني خطا غير فكري حين اتجه لتناول قضايا الصحة مثلا وغيرها من القضايا الخدمية غير الخلافية، أي التي لا تشهد تنوعا في الآراء ولا في التوجهات، لكن يبدو أن المركز استوعب ذلك مبكرا فقرر العودة لمهمته الأصلية. تلك المهمة الأصلية لا تكمن في الحوار بين مختلف التوجهات من أجل إقناع طرف برأي الطرف الآخر، ولا تقوم على فكرة التصحيح ولا على التصويب، لكنها تمثل أبرز وأضخم تدريب شهده المجتمع السعودي على القبول والإيمان بالتنوع والاختلاف والتعدد.
أدى الحوار الوطني أيضا وظيفة سامية جدا تتمثل في تحديد ما يمكن وصفه بنقاط الإجماع ونقاط الاختلاف، من خلال طرح المشترك بين الجميع، وهو هذا الوطن بأمنه ومستقبله وتنميته وحقوق أبنائه ومصيرهم. وكل تلك العوامل المشتركة تمثل الرابط الأبرز بين أبناء هذا الوطن، ينطلقون في ذلك من ثقافتهم الإسلامية ومن ثقافتهم الاجتماعية أيضا. إن الإيمان بوجود مشترك يسمو على الخلافات أبرز وأهم إنجازات الحوار الوطني، وما دون ذلك المشترك فهو سائغ وقابل للتنوع والتعدد والاختلاف، لكن الواقع الآن وبعد سنوات من انطلاق جولات الحوار الوطني اختلف كثيرا، فمختلف القضايا التي تتنوع وتتعدد فيها الآراء هي قضايا ذات أبعاد إقليمية ودولية، حتى وإن أخذت طابعا محليا، فالتطورات السياسية المحيطة بنا من كل صوب باتت تجد لدى السعوديين من أهل الإعلام والفكر والثقافة وحتى من الشباب مستويات عالية من التفاعل إلى درجة تقترب من تبني بعض الأفكار والتيارات الجديدة التي أفرزها الواقع السياسي العربي الجديد. أيضا أصبح السعوديون في حالة من التطلع والملاحظة المستمرة لمواقف الحكومات الجديدة من بلدهم ومن سياستهم ومن ثقافتهم ومن مواقفهم السياسية. كل تلك الجوانب يفترض بها أن تمثل مادة جديدة ومهمة للحوار الوطني. فإذا كانت السنوات الماضية قد شهدت حوارات بين السعوديين عن موقفهم من قضاياهم، فمن المهم الآن أن يشهدوا حوارات حول مواقفهم من كل ما يستجد حولهم. سيكون مؤثرا ومهما جدا لو انعقدت جولات جديدة للحوار تتناول الإنسان السعودي والمتغيرات السياسية من حوله، فلقد أدت تلك التحولات لظهور حالات من الاختلاف الجديد، يمثل أصداء للاختلافات التي تعيشها بلدان الثورات. صحيح أن أولئك يختلفون في الميادين وفي الساحات بينما نختلف نحن على مستوى الأفكار، إلأ أن ثمة حاجة لحوار وطني يَدخلنا جميعا في مناخ التنوع والاختلاف، وفي ذات الوقت في تحديد المشترك الذي لا يقبل الخلاف.
بإمكان أي مثقف أو مفكر أو داعية أن يناصر التوجهات السياسية للإخوان المسلمين في مصر أو تونس، لكن من المهم أيضا أن يدرك أن ثمة مشتركا مصيريا في واقع الدولة وفي مستقبلها تتشكل وفقه معطيات المستقبل المحلي، ذلك أن التعبئة للآراء دن تعريضها لنقاشات وحوارات مفتوحة من شأنها أن تعمق الإيمان بها إلى الدرجة التي تغلب على الإيمان بذلك المشترك، فالحوار في طبيعته الحضارية يقوم على فكرة أن الرأي يعيش حين يتحاور مع غيره من الآراء، ويستجيب للآراء التي تخالفه حين يشترك معها في نقاش مفتوح وحر.
إن السياسي بحاجة دائمة ومستمرة ليعرف الموقف العام والنخبوي من التحولات السياسية المحيطة بنا، وأن يستمع إلى ما هو قائم من اقتراحات حول كيفية التعاطي مع تلك المتغيرات، وليس من جهة هي الأقدر على ذلك مثل الحوار الوطني. المتغيرات السياسية حولنا أفرزت تعلقا شعبيا واسعا بخطابات الحقوق وضاعفت من لغة الاحتجاج المتصاعدة لدى مختلف الطبقات. إن الذين كانوا ينتقدون سوء الخدمات لدى بعض الجهات الحكومية كانوا ينطلقون من موقف وطني خدمي، بينما هم ينطلقون الآن من موقف حقوقي أو على الأقل هذا ما يعلنونه، وهو ما يعني وجود نبرة جديدة في الخطاب الثقافي العام يجب أن يكون للحوار الوطني دور في التعامل معها وإدارتها وتقديمها ومنحها المكانة التي تستحقها.
ما يحدث في تويتر مثلا، لم يعد مجرد نقاش في عالم افتراضي، بل تحول لنقاش واقعي في عالم واقعي ومؤثر، ومن المهم جدا أن يستفيد الحوار الوطني من هذا الواقع الجديد في عقد جولات ولقاءات تستفيد من الخطاب الجديد واللغة الجديدة.