في حين انخفضت أسعار الغذاء عالميا بمعدل 8% عام 2012، ارتفعت أسعاره محليا بنسبة 5%، رغم أن معظم تلك المواد مستوردة، ولذلك فإن هناك حاجة إلى تعزيز الرقابة وتوعية المستهلكين بالتحركات الحقيقية للأسعار

في يوم الخميس الماضي (8 نوفمبر) أصدرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة تقريراً مهماً عن انخفاض أسعار المواد الغذائية عالمياً خلال عام 2012، فلماذا لم تنخفض هذه الأسعار لدينا؟
فحسب تقرير منظمة الفاو، انخفضت أسعار المواد الغذائية بنسبة 8% خلال الأشهر العشرة الأولى من هذا العام (يناير – أكتوبر 2012)، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2011، حسب مؤشر الفاو لأسعار المواد الغذائية الذي يتم نشره شهرياً.
والحقيقة أننا نادراً ما نسمع مثل هذه الأخبار السارة، بل تعوّدنا على استمرار الأسواق لدينا في رفع أسعار المواد الغذائية. هذا هو الانطباع السائد، ولكننى رغبت أن أعرف بطريقة أكثر علمية معرفة ما إذا كانت أسعار المواد الغذائية قد انخفضت لدينا، تأثراً بالانخفاض العالمي الذي رصدته منظمة الفاو، خاصة أن معظم الأغذية التي نستهلكها مستوردة من الخارج.
تقوم مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات برصد معدلات الأسعار في المملكة العربية السعودية، شهرياً وفصلياً، وهي المرجع الرسمي لتحركاتها. وتُظهر المعلومات التي تنشرها المصلحة أن أسعار المواد الغذائية قد ارتفعت بالفعل في المملكة خلال الفترة الماضية، مُعزّزةً الانطباع السائد لدى المستهلكين. وقد نشرت المصلحة قياساتها لتحركات الأسعار خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2012، ووفقاً لتلك القياسات، فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية في المملكة حتى الآن بمعدل سنوي قدره (4.5%)، في مقابل الانخفاض في الأسعار العالمية، الذي بلغ 8% وفقاً لقياسات منظمة الأغذية والزراعة كما أسلفتُ.
وقد رأينا هذا من قبل، ففي العام الماضي انخفضت أسعار القطن عالمياً بمعدل النصف تقريباً، في حين ارتفعت أسعار الملابس داخل المملكة. وقد برّر التجار هذا الارتفاع في حينه بحجة ارتفاع أسعار القطن المستورد، وهو ما لم يكن صحيحاً. وقد سبق أن كتبتُ عن هذا الموضوع بالتفصيل في الوطن (ارتفاع الأسعار والصحافة الاقتصادية وحملة التبرير – الوطن – 10 مايو 2011).
ومن المؤكد أن من حق التجار رفع الأسعارالمحلية لمواد بنسبة ارتفاع سعر المواد المستوردة، ولكن بنفس المنطق، من المفروض أن تنخفض الأسعار لدى انخفاض تكلفة الواردات لا أن ترتفع كما شاهدنا.
وفيما يتعلق بأسعار المواد الغذائية، فقد يتحجج بعض التجار بارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية المستوردة، ولكن العبرة بمجمل الواردات من تلك المواد، وبالقياسات الدولية المستقلة والموضوعية. ومؤشر الفاو الذي أشرتُ إليه يقيس تحركات أسعار المواد الغذائية في الحقيقة على نحو علمي دقيق يمكن الاعتماد عليه. وهو يعتمد على قياس التحركات في أسعار (55) سلعة غذائية من خمس مجموعات رئيسية (اللحوم، الحبوب، الزيوت، السكر). ولدى الفاو متخصصون في كل سلعة يقومون برصد تحركات أسعارها الفعلية في جميع أنحاء العالم، ويقيسون متوسطها كل شهر، وهي قياسات موضوعية لا تعتمد على مصالح تجارية ضيقة.
وتصدر (الفاو) كتابها نصف السنوي عن الوضع العالمي للغذاء، والذي صدر هذا الأسبوع أيضاَ. وقد رصد هذا الكتاب أيضاً انخفاضاً ملحوظاً في أسعار الشحن، وانخفاض الطلب العالمي على الحبوب، مما أدى إلى انخفاض فاتورة الغذاء العالمية لعام 2012 إلى (1.14) تريليون دولار، أي 10% أقل مما كانت عليه في عام 2011 حين بلغت رقماً قياسياً (1.27 تريليون دولار).
ويوضح تقرير (الفاو) عدة أسباب أدت إلى خفض أسعار الغذاء على مستوى العالم، بعد أن بلغت مستويات مخيفة خلال الفترة (2007-2010). ومن هذه الأسباب في نظر المنظمة جهود مجموعة العشرين في وضع آليات شفافة لمراقبة أسعار الغذاء، بما في ذلك تأسيس (نظام معلومات الأسواق الزراعية)، الذي يرصد وينشر أسعار الغذاء أولاً بأولا. وقد ساعد هذا النظام، الذي يدار من مقر منظمة الفاو في روما، في وقف حملات الشراء والتجميع غير المدروسة التي تقوم بها بعض الدول والتجار أحياناً خلال الأزمات، مما يؤدي إلى المضاربة التي ترفع الأسعار بشكل غير معقول، إما خلال فترات الجفاف أو الفيضانات أو الزلازل. وفي رأي المنظمة فإن أزمة الغذاء في العالم ليست أزمة تتعلق بالكميات المتوفرة، ولكن بنظم التوزيع وشفافية المعاملات التجارية.
فرأي الخبراء واضح، أنه ليست هناك أزمة في أسعار الغذاء عالمياً، على الأقل في الوقت الحاضر، بل هناك انخفاض مستمر في تلك الأسعار، ومن المفروض حسب النظريات الاقتصادية أن ينعكس ذلك على الأسعار المحلية، لأن معظم أغذيتنا مستوردة، ولكن ذلك لا يحدث، لأن المستوردين والموزعين يستطيعون التأثير على تلك الأسعار من خلال مواقعهم في السوق، بل ربما سعوا إلى خلق انطباع خاطئ بأن الأسعار العالمية في ارتفاع مستمر، ويساعدهم في ذلك عدم وجود رقابة فعالة على الأسعار وعدم متابعة معظم المستهلكين للأسعار العالمية.