الهاوية المالية مصطلح جديد يفسر نتيجة حدوث خلل مفاجئ في العلاقة بين العرض والطلب في السلع والخدمات ورؤوس الأموال. والهاوية المالية الأميركية تعد أزمة اقتصادية خانقة جديدة
في اجتماعهم الأخير، طالب وزراء مالية مجموعة العشرين أميركا بتوضيح موقفها وكيف سيكون بإمكانها تفادي الانزلاق نحو الهاوية المالية دون الإضرار بالاقتصاد العالمي.
الهاوية المالية مصطلح جديد يفسر نتيجة حدوث خلل مفاجئ في العلاقة بين العرض والطلب في السلع والخدمات ورؤوس الأموال. والهاوية المالية الأميركية تعد أزمة اقتصادية خانقة جديدة، لكونها تعكس واقع التباين الكبير بين النمو الحقيقي للاقتصاد الأميركي والبذخ المالي الذي ساهم في تراكم الديون التي تجاوزت أضعاف النمو. كما أن العجز التجاري الخارجي المزمن الذي تواجهه أميركا اليوم يتفاقم مع فشل اقتصادها في تحقيق نمو داخلي حقيقي.
في الأحوال العادية تلعب النواحي المالية دوراً رئيسياً في تحقيق التوازن بين الأسواق الداخلية وميزان التجارة الخارجية، إلا أن تراجع الطلب والاستهلاك في أميركا جراء تراجع الأجور وتدهور القدرة الشرائية، أدى إلى تفاقم معدلات البطالة وارتفاع المديونية، مما سينتج عنه إضعاف النفوذ السياسي والاقتصادي لأكبر اقتصاد عالمي.
في منتصف العام الجاري، لجأ جهاز الميزانية في مجلس الشيوخ الأميركي بدراسة توقعاته بشأن زيادة الضرائب على الأفراد بدءاً من 1 يناير القادم وخفض الإنفاق بمقدار 1000 مليار دولار على مدى 10 سنوات. فشل المجلس، المنقسم بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، في تحقيق هذا الهدف، فارتفع العجز المالي الأميركي 4% من الناتج المحلي الإجمالي وفقدت أميركا فرصة استعادة 46% من الوظائف المفقودة البالغ عددها 9 ملايين وظيفة. في الفترة الأخيرة قبل الانتخابات تفاقم الوضع الاقتصادي المزمن ليصبح الكساد أكثر تهديداً وليدفع بأميركا سريعاً نحو الهاوية المالية.
الوضع الاقتصادي ساهم في انقسام أعضاء مجلس الشيوخ إلى قسمين: الأول يطالب بتقليص نفقات الدولة الفيدرالية للسنة المالية القادمة بحدود 109 مليارات دولار، مما سيعيد لميزانية الدولة641 مليار دولار، إذا ما أضيفت إليها الضرائب، لتساوي في العام القادم 4% من إجمالي الناتج الداخلي مقابل 7% في العام الجاري. والقسم الثاني يحذر من أن نسبة البطالة سترتفع إلى 9% في نهاية العام القادم مقابل 8% في العام الجاري، إذا لجأ القسم الأول إلى تقليص النفقات وزيادة الضرائب. الانقسام الحزبي داخل مجلس الشيوخ أدى إلى خسارة الاقتصاد الأميركي لتصنيفه الائتماني الأرقى دولياً، مما حدا بصندوق النقد الدولي أن يحذر أميركا بأنها قد تخسر أربع نقاط من النمو وأن تعود إلى الانكماش إذا لم تجد حلولاً جذرية لمشاكلها الداخلية المتفاقمة.
لن يكون من السهل على الفرد الأميركي أن يتقبل سياسات التقشف وتخفيض الإنفاق وزيادة الضرائب، خاصة أن اقتصاده بحاجة ماسة إلى سياسات تحفيزية تؤدي للنهوض من كارثة الرهن العقاري والمضاربات المالية وليس لسياسات إحباطية قد تؤدي إلى الكساد والركود. مكتب الميزانية التابع لمجلس الشيوخ الأميركي حذر من أن فشله في التوصل إلى حلول فعالة قد يسبب مأزقا اقتصاديا وفقدان نحو مليوني وظيفة، ليشهد أكبر اقتصاد في العالم انكماشاً بنسبة 3% خلال العام المقبل مما سيخلف آثاراً سلبية خطيرة، كانت قد حذرت منها أكثر من 150 شركة أميركية كبرى.
لا أعتقد أن هنالك دولة في العالم تعاني اليوم من مشاكلها المزمنة بقدر معاناة أميركا. الدين الأميركي العام وصل إلى 17 ألف مليار دولار، ليفوق 120% من الناتج المحلي الأميركي و150% من قيمة التجارة العالمية و160% من اقتصاد أوروبا. كما أن سعير الرهن العقاري الأميركي ومراهنات الأصول المالية الأوروبية التي أدت إلى تردي الأوضاع العالمية، تساعد اليوم على انزلاق أميركا مجدداً إلى الهاوية المالية الخانقة التي تهدد الاقتصاد العالمي بالكساد والإفلاس. ومع ذلك تستمر أميركا في إنفاق مليارات الدولارات على الانتخابات ووسائل الإعلام لإقناع العالم أجمع بأن لديها أفضل نموذج رأسمالي ونظام ديموقراطي.
عبر التاريخ، أثبتت الأزمات المالية العالمية أن ضعف الأنظمة والتحايل عليها كانا السبب الرئيس في تعريض العالم للعديد من الأزمات الاقتصادية. أزمة الكساد العظيم التي حلت بأميركا خلال 1929 كان سببها سعر الفائدة وبيع الديون والمغامرة، فأفلست العديد من الشركات وانتشرت البطالة وانخفض الطلب على السلع والخدمات، لتنخفض أسعارها ويفشل المدينون في الوفاء بديونهم، فأحجم المقرضون عن تقديم الائتمان وانخفض بالتالي حجم الاستثمار. خلال أيام معدودة فشلت البنوك الأميركية في تحصيل مستحقاتها وتراجعت عن تلبية مسحوبات عملائها، لتعلن 5000 بنك إفلاسها، ويخسر المودعون 3 مليارات دولار من حقوقهم، مما اضطر الرئيس الأميركي في ذلك الوقت إلى إغلاق جميع البنوك. ولكن تبيّن فيما بعد أن أزمة الكساد العظيم كانت نتيجة حدوث انحرافات وممارسات غير أخلاقية في أسواق المال الأميركي، في مقدمتها المغامرة التي كان لها الدور الأكبر في انهيار السوق المالية من خلال المضاربات والاعتماد على البيع الصوري واتفاقيات التلاعب في أسعار الأوراق المالية وشراء السلع بغرض الاحتكار.
أما الأزمة المالية الآسيوية في 1997، فقد شهدت انهيار العملات عقب قرار تعويمها وفشلت في محاولات دعمها لمواجهة موجة المضاربات القوية غير النظامية التي تفاقمت لتزيد من حجم الدين الخارجي الآسيوي الذي بلغ 180% من حجم إجمالي الناتج المحلى للدول الآسيوية.
هذه الأزمات توحي لنا بأن عالم المال والأعمال يحتاج إلى أنظمة صارمة وقواعد محكمة حتى لا تنزلق الدول في الهاوية المالية مثل ما انزلقت أميركا وأوروبا.