من تجربتي في التعليم، كانت الصورة التي يتداولها المعلمون عن طلابهم صورة صراع وتوتر؛ بمعنى أن المعلم يتوجه للصف ليواجه جماعة تصارعه ويكمن تحديه الأكبر في السيطرة عليها وإخضاعها

في المقالات الخمسة السابقة تحدثنا عن مأزق العلاقة بين المعلمة والطالبة في ثلاثة سياقات؛ التعليم المثالي، والإيديولوجي، والأداتي. كل هذه النماذج تفشل في تحقيق العلاقة التي تمثل بحسب مارتن بوبر (الأنا - الآخر) أو العلاقة التي تكفل لطرفيها وجوده الإنساني المكتمل ككائن حر وعاقل. التعليم المثالي يورّط المعلم والطالب في علاقة القائد والتابع والتعليم الإيديولوجي يورطهم في علاقة مصممة مسبقا لتحقيق مصالح جماعة أو فئة معينة والتعليم الأداتي يستبعد جانبهم الإنساني ويحصرهم في علاقة تقنية ضيقة ومحدودة.
من البداية قلت إن هذه المقالات مكتوبة تحديدا للمعلمة والمعلم المنخرطين في هذه العلاقات. هنا، اليوم جوانب قادرة، برأيي، على رفع وعي ليس فقط المعلمين بل الطلاب بطبيعة العلاقة التي تربطهم وقد يكون هذا مدخلا لتغيير هذه العلاقة. قلنا إن هذه المقالات مكتوبة لتغيير العلاقات بشكل شخصي أو أنها مكتوبة لأولئك الذين لا يطيقون صبرا على هذه العلاقات ولن ينتظروا تغييرا لطبيعة التعليم وليسوا أيضا مستعدين لمغادرة التعليم والانسحاب منه. أي إن هذه المقالات هي لمن يرفع هذا الشعار: أريد علاقة أخلاقية مع طالباتي وطلابي اليوم وهنا.
أولى خطوات هذه العملية هي محاولة الوعي بالطبيعة السياسية والاجتماعية للتعليم. أو بمعنى آخر الوعي بأن التعليم جزء من هذه المعادلة وليس خارجها. هذه الفكرة تدعو المعلمة والمعلم لطرح السؤال الجوهري أو محاولة النظر للتعليم من خارجه. التساؤل عن أهداف وسياسة التعليم مبادئه الأولى، مدى خضوعه للمعادلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. في الغالب الناس ـ ومنهم الكثير من التربويين ـ ينظرون إلى التعليم على أنه خطاب أبيض أو خارج معادلة الصراع في المجتمع. التعليم يبدو ـ من الخارج ـ أنه يحقق ما يتفق الناس حوله. بينما النظر الأعمق سيكشف عن طبيعة مغايرة للتعليم. المعلمة والمعلم يتساءلان لماذا يتم تدريس هذه المعرفة وليس تلك، لماذا هذا المؤلف وليس ذلك، لماذا التعليم المركزي؟.. الخ. كل هذه الأسئلة تجعل من المعلم أو المعلمة على مستوى إدراك أوسع للمعادلة الكبيرة التي يتحرك فيها. في هذا السياق تعتبر نظرية التعليم النقدي في التربية مدخلا لهذا الفهم. هذه النظرية تفهم العملية التربوية داخل معادلة الصراع في المجتمع وتركز بشكل جوهري على المدرسة باعتبارها مؤسسة اجتماعية تعكس لعبة الصراع الاقتصادي والسياسي والديني في الخارج. لدى البعض وعي نسبي بطبيعة الخطاب السياسي ولذا يبدون حذرين في التعامل معه ولكنهم في الغالب يفقدون جزءا كبير من حسهم النقدي تجاه الخطاب التربوي. المعلم والمعلمة القلقان من طبيعة علاقتهما يعكسان المعادلة وترتفع حساسيتهما النقدية تجاه الخطاب التربوي.
لتحقيق هذا الهدف تحتاج المعلمة والمعلم إلى مهارتين جوهريتين لأي باحث عن التغيير: الانفتاح والحس النقدي. في كتابها جدلية التحرر تذكر فيلسوفة التربية الأمريكية ماكسين جرين أن التفكير النقدي والانفتاح هما من شروط ذهنية التحرر. هذا التفكير النقدي والانفتاح قادران على مساعدة المعلمة والمعلم في فهم طبيعة عملهما اليومية أيضا. ما يحتاج المعلم فعلا هو أن يجعل من الطبيعي غير طبيعي ومن المعتاد غريبا ومن المألوف مثيرا للاستفهام. التعليم الرسمي آلة هائلة كفيلة بتطبيع كل الممارسات داخلها. الفكر النقدي هنا يسعى لفك هذا التطبيع وإعادة التساؤل حوله.
المعلم والمعلمة حين يدخلان إلى مدارسهما كعضوين جددين في التعليم يدخلان في مؤسسات لها تراثها وتقاليدها وعلاقاتها المحددة سلفا. العضو الجديد تتم أقلمته مع هذه الأجواء عن طريق النظام الرسمي والعلاقات الاجتماعية والحكايات الكبرى والصغرى التي تجري على ألسن المعلمين والمعلمات. من أهم هذه التقاليد تلك التي ترسم العلاقة بين المعلمة وطالباتها والمعلم وطلابه. في الغالب أن هذه التقاليد ترسم صورة لعلاقة متوترة بالضرورة بين هذين الطرفين. من تجربتي في التعليم، كانت الصورة التي يتداولها المعلمون عن طلابهم صورة صراع وتوتر؛ بمعنى أن المعلم يتوجه للصف ليواجه جماعة تصارعه ويكمن تحديه الأكبر في السيطرة عليها وإخضاعها. لذا نجد أن عبارة هيبة المعلم التي ضاعت مع منع استخدام العنف الجسدي في المدارس هي من الحكايات الكبرى في أدبيات المعلمين. ما يظهر في هذه الصورة هم الطلاب الجناة لا الطلاب الضحايا. الطلاب الذين يرفضون التعليم بدلا من الطلاب الذين أدى التعليم الرديء إلى جعل التعليم تجربة مرة بالنسبة لهم. ما يظهر في هذه الصورة الطالب الذي يرفض القدوم للمدرسة بسبب أنه فوضوي أو غير جاد بدلا من الطالب الذي يرفض القدوم للمدرسة لأنها غير آمنة أو مملة. ما يظهر في هذه الصورة هو الطالب المشاغب والعنيف بدلا من الطالب الذي يبدو سلوكه العنيف نتيجة للعنف الذي ربما تعرض له في البيت أو في المدرسة. قد يبدو هذا الكلام مثاليا لبعض المعلمين والمعلمات وهذا يعكس، ولو جزئيا، كثافة وتشبع الأجواء التربوية بعلاقة الخصومة والتوتر بين المعلمين والطلاب. في المقابل هناك معلمون وطلاب نجحوا في إقامة علاقة صداقة ومحبة ورحمة لا تحتوي في داخلها على علاقة قيادة واحتكار.
هذه المقالة مشغولة بطرح حالة أرى أنها ضرورية للمعلمة أوالمعلم لرؤية وتقييم العلاقة الإنسانية التي ينخرط فيها مع طلابه. هذه الحالة هي إدراك الصورة الواسعة للعملية التربوية. أي رؤية التعليم بوصفه تجليا للحراك الاجتماعي والإيديولوجي والاقتصادي في المجتمع. أي فهم العلاقة مع الطلاب داخل المعادلة الكبيرة في المجتمع. هذه الحالة تسعى لجعل ما يعد طبيعيا ومتعارفا عليه في التعليم أمرا مثيرا للتساؤل والبحث من جديد. هذا المنظور يشير للمعلمة والمعلم أن علاقتهم مع طلابهم تمت صياغتها من الخارج وأنه قد حان الوقت لفك تلك الصياغة وإعادة مراجعتها وفحصها من أجل الحصول على علاقة عادلة تحترم إنسانية الآخر وتجربته في الحياة.