قد يخيل للمرء أنه لا شيء مترابط، وأن كل ما يبث هو برامج من بنات أفكار مبدع هنا أو منتج هناك، ولكنها ليست إلا عمليات جرف ممنهجة للثقافات المحلية والأخلاقيات متوجة بتشويه للهوية!

اليوم وحال عودتي من الجامعة واجهت حالة اجتياح كيميائي لمنزلي بسبب الرش الدوري لذوات الأجنحة والأرجل وأخواتها، منعا لها من تحويل كل شبر منه إلى أوتيل خمس نجوم للاستجمام والراحة، أعلم أنه الإجرام بعينه! استخدام أسلحة كيميائية على مخلوقات مهيضة الجناح، رقيقة، لا تريد إلا العيش والتكاثر، ولكنها سنة الحياة والبقاء للأقوى، وبما أنني من الأقوياء قررت الهروب إلى منزل أختي، هناك أستطيع أن أجتاح مكتبتها والحاسوب، وأتسلل إلى كل ما كتبت من أفكار عما قرأته مؤخرا، هكذا نحن نتسبب في الخراب وأحيانا في فناء مخلوقات مسالمة، ونهرب إلى حيث نجد الراحة لضمائرنا، نجلس إلى التلفاز لنتابع أحداث مسلسل السلطان وحريمه، وربما نعرج على برامج الفن والمواهب، وما أكثرها!، لنتسلى بغنج هذه وهي في الحمام العربي، وجعير ذاك وهو يترنح فوق الحصان ويلوح بالسيف... إنه ليس إلا سيرك، لا يمت إلى الفن بأي صلة مهما حاولوا إظهاره! وقد يحضرنا شعور الفضول لمعرفة الأحداث والتحليلات المصاحبة من قبل شخصيات حديثة الظهور على الساحة، ولكن بسم الله تبارك الرحمن نجد أنهم ليسوا إلا موسوعات التشطيح لدرجة التسطيح!
ما علينا... نسارع ونهرب كي لا تصيبنا شظية من العراك الجاري، أو كي لا يصيب الصدأ عقولنا من العلاك المصدي، الذي يريدوننا أن نتقبله على أساس أنه حقائق ووقائع وأفكار ذكية بل إبداعية! العالم يتداعى من حولنا، أنهار من الدماء تسيل، مدن تدك وتدمر، شعوب تنتهك، والقتل والإرهاب يزداد يوما بعد يوم، ويريدوننا أن نصدق أن عالما جديدا يخلق من كل هذه الفوضى!
إلى أين أريد أن أصل بكم؟ إلى ما وجدته في ملف على واجهة حاسوب أختي، شدني العنوان: من أنتم؟، فدخلت لأقرأ الموضوع، فلم أجد إلا التالي: الذكاء يحول القبح جمالا، بينما الجمال لا يستطيع إصلاح الجهل، وأي جهل نُجر إليه اليوم جرا لنغرق في بحره! وهنا تحرك شيء ما في داخلي، وقررت أن أستولي على ما وجدت وأنطلق منه إلى فكرة طالما أرّقتني، كيف استطاعوا أن يشدوا المشاهد للمتابعة، كيف استطاعوا أن يخدروا العقول ويسلبوا منا الإرادة؟! الإجابة بذكائهم، وهنا أعترف لهم بذلك، أي أنهم أذكياء لدرجة العبقرية أحيانا، يدرسون المجتمعات المستهدفة، دراسة عميقة ودقيقة، ولا يدعون أي شيء مهما كان تافها أن يفوتهم، ونحن كشعوب مستهلكة، ومن خلال ما نستهلك مما يصنعون، وكيف نستهلك، نساعدهم كثيرا فيما يبحثون عنه من إجابات، خاصة عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي على النت، أي أنهم لا يستهلكون طاقات كبيرة في البحث، ومن ثم تجتمع العقول وتخطط، قد يخيل للمرء أنه لا شيء مترابط، وأن كل ما يبث هو برامج من بنات أفكار مبدع هنا أو منتج هناك، ولكنها ليست إلا عمليات جرف ممنهجة للثقافات المحلية والأخلاقيات متوجة بتشويه للهوية!
لن أستخدم أمثلة مما يبثونه لنا، بل سأسوق أمثلة مما استخدم في مجتمعات غربية من قبل، أولها تمثيليات أسبوعية كوميدية، أدخلت وبشكل بطيء لدرجة أنه لم يلاحظ في وقتها، إلا من خلال الدراسات التي أجريت فيما بعد على أسباب تقبل تلك المجتمعات لسلوكيات كانت تعدتابو أو غير مسموح بالتحدث عنها أو حتى تقديمها على شاشات التلفاز، منها: السكن المشترك بين الشبان والشابات، المثلية، زواج الجنس الواحد، الرحم المستأجر، التبني للأسر المثلية، وغيرها من القضايا التي كانت لا تعد فقط ضد الأخلاق بل ضد الدين!
ومن لا يصدق فما عليه إلا مشاهدة بعض حلقات المسلسلات التالية: Soap, Three's Company, Daynstay، هذا من الماضي، أما الآن فقد تفتق ذكاؤهم عن مسلسلات جديدة تناسب تغيرات العصر منها على سبيل المثال لا الحصر: Modern Family، وهذا الأخير مما أسميه الزينة فوق الكعكة، أو بالأحرى سم الكعكة! وانتظروا فسوف تصلنا، ولمن يعتقد أنها لم تصل بعد، أقول ما هذه السموم التي تبث عن طريق المسلسلات المدبلجة، الموجهة لسيدات البيوت؛ مربيات الأجيال، ومقاطع الكليب للأغاني الموجهة لشباب وبنات وأمل المستقبل!
كلمة أخيرة لمن يعتقد بأنني أبالغ، انتظروا الدراسات الخاصة بالتغيرات في سلوكيات المجتمعات العربية، أي من ناحية الأخلاقيات والهوية والتوجيه الممنهج، ولا أظن أنها ستكون مفاجأة، كل ما أتمناه أن نتمكن من الاستيقاظ قبل فوات الأوان، ونعمل على إعادة تقوية الأساسيات: الدين، والأخلاق، والهوية، والتاريخ، واللغة.