ذهب دوبريه إلى أميركا اللاتينية؛ لأنه قرأ روايات اليخو كاربنتييه. كانت هي المكان الذي اكتشف فيه ريجيس دوبريه ـ أحد أهم علماء وسائط الإعلام ـ فرنسيته. هناك كما يقول: كان يتكلم لغة مختلفة، وله ذاكرة مختلفة، وسلوك مختلف، وأسلوب بالطعام أو الحلم يختلف كليا عن أساليب رفاقه البوليفيين أوالتشيليين.
هناك بعد أن ظل سجينا طيلة ثلاثة عقود أدرك ـ المثقف الأهم في تحقيق فضيلة المراجعة والإفصاح بالأخطاء في العصر الحديث ـ أنه (حين يكون واحدنا بعيدا عن وطنه يكتشف ماذا يعني أن يكون له وطن)، ثم يستشهد بأنه حتى كبار الأميركيين اللاتينيين، قرروا مصير أميركا اللاتينية وهم في باريس، إذ لم يكتشف ميراندا، وبوليفار أنهم ينتمون إلى أميركا اللاتينية إلا حين قدموا إلى فرنسا.
كان اليخو كاربنتييه طريقه إلى أميركا اللاتينية، ولكن أيضا من طريق عدن، الجزيرة العربية لبول نيزان، ومن طريق رفض فرنسيته ورفض أوروبا، على حد إفصاحه. و صارت أميركا اللاتينية التي يتحدث عنها هي في العمق، المكان الذي اكتشف فيه أسلوبا آخر للعيش اليومي، معنى ما للاحتفال، والهجنة والانفعالية المفرطة والسخاء الذي لا يوصف. وهنا يرى دوبريه أن
(الأوروبيين يبدون شديدي البخل مقارنة باللاتينيين، غير أن الأروبيين لهم مزايا أخرى. اللاتينيون أهل سخاء، لكن علاقتهم بالزمن غير سوية، إذ يعانون من صعوبة في تنظيم المستقبل، وحتى في تذكر الماضي، ثقافتهم ثقافة الحاضر. ثقافة متينة باللحظة الراهنة، غير أنها مفرطة في مسيحيتها، ومتحورة حول الدماء والخطيئة والتوبة عبر التضحية).
لقد اكتشف فرنسا وهو يحيا في بوليفا أو في تشيلي، إلا أنه يعترف أنه لا يقصد بهذا الإقرار أنه انتقل من النزعة الأممية إلى النزعة الوطنية، لكنه اكتشف ببساطة- كما يقول-: (أن الثورة العالمية ليست وطنا، لقد كانت فكرة، خرافة، أو ستارا خادعا. كل ما هو عالمي خادع، الناس محليون أولا، وينبغي أن يقام سبيل للذهاب والإياب بين المحلي والعالمي).
في الكتاب الجميل (كي لا نستسلم) مادة عميقة، لسلسلة حوارات أجرتها إذاعة فرانس كولتور بين دوبريه والسويسري جان زيغلر، وبثتها في حلقات طوال أسبوع، ثم نشرت في كتاب عام 1994، ومنذ نقله للعربية عام 1995 بحهود رينيه الحايك وبسام حجار، لا أمل مراجعته بين وقت وآخر. في آخر مراجعة، بدا كما يوصف جزءا من حالتنا الراهنة في فصل ما جدوى أن تكون مثقفا حين يقول: (إني أنكب على تمحيص الأدوار التي أرى أنها في طور الأفول).