ها أنا في خريف العمر أحمل الراية البيضاء معترفا بكافة الهزائم السابقة واللاحقة، أنظر في المرآة أحيانا فأرى نفسي محاربا بلا معركة في حرب عبثية
كثيرا ما أجريت جراحات، أدخل غرفة العمليات مبتسما أداعب الأطباء، وأخرج بكل ثقة كأنني كنت في نزهة، لكن هذه المرة تعتريني مشاعر مختلطة، بين الإحساس بمرارات العمر وقد حطّت على قلبي دفعة واحدة، والأسى من رفاق العمر، ممن يسميهم البسطاء (النخبة)، معظمهم كانوا رفاق مشوار العمر، عرفت بعضهم منذ كنا تلاميذ في الثانوية، وعرفت آخرين في محطات شتى في الحياة، وتسكعنا معًا على المقاهي، ووقفنا أمام (فاترينات) المحال وفي عيوننا حسرة أننا نريد هذا القميص أو ذاك الحذاء، لكن لأننا لم نكن نملك ثمنه كنا ننظر لبعضنا البعض ونتضاحك وننسى الأمر.
كثيرون منهم صاروا الآن نجومًا، يعلم الله أنني لا أحسدهم، لكن شيوخ المهنة يدركون أن أقلهم موهبة صار أفضل من (صاحبكم) لأسباب أجهلها، لكن ما أعرفه أنني كنت مسؤولا عن ذلك بخيارات لم تكن بعضها بيدي، فمثلا حين بدأت حياتي ضابط شرطة، وهذا لم اختره، بل كان قرار الوالد رحمه الله وسامحه، ولم يكن عمري حينها يتجاوز السابعة عشرة، وهي سنّ دون النضج بكثير، لكن قدر الله وما شاء فعل.
وهناك خيارات أخرى كنت أنا المسؤول عنها عن سبق إصرار، مثل انحيازي الفطري والحاسم لكل أصحاب المظالم، لا يعنيني دينهم أو ملتهم أو غير ذلك، فالمهم أن ضميري كان ينتفض حيال أي مظلمة، ولم أترك وظيفة مرموقة اجتماعيا هي مدير مكتب وزير الداخلية ـ ضد نصائح الأهل والأصدقاء ـ لألتحق بالصحافة كي أكون (طبالا) للسلاطين، فقد كان بوسعي أن أقود فرقة موسيقية كاملة من الطبالين الذين أصبحوا الآن بقدرة قادر (ثوارا) و(زعماء) وما شابه.. سامحهم الله، فلا يجشمون أنفسهم مجرد عناء اتصال هاتفي في المحن أو حتى الأعياد والمناسبات الاجتماعية.. هكذا كانت الحياة وما زالت وستظل.. وهكذا كان البشر وسيبقون.
أقول هذا وأنا على عتبات منعطفٍ حادٍ في حياتي، إذ ليس بيني وبين لقاء ربي سوى خطوة، إنني رأيت وسمعت كثيرين منهم يعرضون خدماتهم على أجهزة الأمن في عهد مبارك، بل إن بعضهم كانوا يطلبون مني التوسط لدى هذا الضابط أو ذلك الجهاز، وكانوا يصدمون حين أرد عليهم بأن علاقتي بأجهزة الأمن ليست على ما يرام، لأن استقالتي فسرها وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي باعتبارها (موقفا) شخصيا منه لأنني تقدمت بها في الأسبوع الأول من توليه المنصب، لمعرفتي بتاريخه الدموي؛ لهذا حرمني من كل مستحقاتي المالية والأدبية لأنني (مستقيل)، فليس لي معاش تقاعدي، ولا يحق لي دخول أندية الشرطة ولا مستشفياتها، بل على العكس أحتمل تبعات (تهمة) أنني كنت ذات يوم ضابط شرطة، التي يتبجح من كانوا (عملاء ومرشدين) بما كانوا يمارسونه، تماما كما تتصرف الساقطة حين تتهم نساء الحي بأنهن مثلها (ساقطات)، وبالطبع تدركون الفرق الشاسع بين الضابط والعميل. ما علينا، واصلت دراساتي العليا والتحقت بالأهرام، وهناك صدمت حين عرفت وشاهدت ما لم أكن أتوقعه، فقد كنت أحسب أن الأمن أسوأ مهنة في مصر حينئذ، لكن اتضح لي أن الصحافة ـ خاصة الحكومية ـ أسوأ بكثير، وهذه مسألة شرحها يطول، ربما لو امتد بي الأجل أكتب شهادة عليها يوما ما.
رأيت أسماء كتّاب وباحثين يفترض أنهم مرموقون، لكن ظهورهم تقوست من فرط الانحناء أمام جمال مبارك وصفوت الشريف وحبيب العادلي وبقية بطانة السوء، ويقبلون أياديهم وربما أحذيتهم، بينما كانوا يعادون كل صحفي مثلي لا ينتمي للحزب الوطني (سيئ الذكر) ويستبعدونه، لدرجة أنني منذ عام 2001 حتى اليوم أحصل على إجازات بدون راتب كحل وسط يحول دون الاصطدام، والشهود على هذه الوقائع أحياء يرزقون.
تشبهني حكاياتي كثيرا.. كأن نفسي وضميري عدوان اعتادا التعايش معًا، وكم رددت بيت المتنبي: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.. عدوا له ما من صداقته بُدّ.
فها أنا في خريف العمر أحمل الراية البيضاء معترفا بكافة الهزائم السابقة واللاحقة، أنظر في المرآة أحيانًا فأرى نفسي محاربًا بلا معركة.. في حرب عبثية يختلط فيها الصديق بالعدو، أو فارسًا خذله حصانه وسيفه ورفاقه، وأثخنته الجراح، فلم يعد أمامه من خيارات سوى الموت أو رفع الراية البيضاء.
البعض يموت واقفاً، والبعض يموت مستلقياً، منهم من اعتبر شهيداً، وثمة من راح قتيلاً.. كثيرون ماتوا دون أن يدروا، والأكثر لا يزالون على قيد الحياة، أموات بقلوب تنبض، أما أنا كيف سأموت؟ هذا ما لا أعرفه بعد، فلست واثقا من أي شيء، أشعر أنني في محطة ما انتظر السيارة، القطار، الطائرة، انتظر الجنازة لألتحق بأول نعش، أنتظر كل الحكايات التي تشبهني حتى أعيشها دفعة واحدة، ألم أقل لكم تشبهني كل الحكايات العابرة المبتسرة الحزينة.
أخاطب الأصدقاء والأعداء والأعدقاء، أرجوكم سعة الصدر، فليس من نبل الخصومة التنكيل بالأسرى أو جثثهم، فكل ما أنشده أن أشكو لكم هماً شخصياً، فلا يمكن أن نتكاشف حقًا من دون شكايات حميمة، والذي اختار الكتابة أو اختارته لا شيء في حياته اسمه (شأن شخصي)، فهو مستباح في كل خطوة يخطوها، وفي كل نفس يخرج من رئتيه، وعليه أن يتدرب على تلقي الطعنات والإهانات والافتراءات بصدر رحب، كأنه قدر لا مفر منه.
بكل صدق سادتي وصلت الآن لنتائج مفزعة لي شخصياً، وليس لأحد آخر بالطبع، فبعد سلسلة انكسارات قاسية تعاقبت على كل الأصعدة العامة منها والشخصية تقلصت الأحلام الممكنة إلى حد أصبح معه المرء يؤمن يقيناً أنه مشروع هزيمة ولا شيء أكثر.. فكل من راهنا عليهم خذلونا.. وكل ما تصورناه مؤسسات اتضح لنا أنها خرافات، بدءاً من نظام اليانكي الدولي، مروراً بأساطير الدول والمجتمعات في شرقنا المسكون بأنصاف الآلهة، انتهاء بمؤسسة الضمير التي باتت تعرض يومياً للمزايدات تارة باسم السماء وتارات باسم الوطنية وأخرى بأسماء لا حصر لها، ولا ندري أين سترسو بنا السفينة.
لهذا سادتي فكرت أن أفعل ما كان قد اعتزم شاعر فرنسا ومثقفها الكبير رامبو ذات يوم قبل عقود، حين اعتزل الجميع، وقرر أن يصنع جنته الخاصة في عدن أو الحبشة، وكلي يقين أنني سأمضي على درب مماثل، مع اختلاف التفاصيل وفقاً لظروف عالم ما بعد 11 سبتمبر وما يسمى الربيع العربي، فقدت عدن زخمها الأسطوري، وصارت إحدى محطات الهوس الديني، والنعرات القبلية، ولم تعد صالحة لحلم الفردوس المفقود .. أما إثيوبيا ففيها من الكوارث والأزمات ما يكفي لترشيحها كنموذج بروفة للجحيم، لهذا تنازلت عن حلم رامبو ببساطة.
من هنا ينبغي أن أفكر بحلم جديد، سأواصل الأحلام حتى ألقى وجه ربي، سأقول له يا إلهي أنت تعلم عني جميع ما أعرفه ولا أعرفه، بالتأكيد أخطأت كثيرًا، وأصبت أحيانًا، لكن خطايا ثلاث لم أرتكبها: لم أخن ضميري يوما، قد أسيء الفهم والتقدير لا بأس لكن لم أتاجر بما أعتقده صوابًا أو خطأ، ولم أخذل أصدقائي أبدًا بل بذلت جهودا قدر استطاعتي لمساعدتهم دون أي مقابل، ولم أشرك بربي قط، بل دائمًا كنت أوقن أن الإله واحد أحد، وغاية ما أرجوه هو العشم في رحمته تعالى، وسعة صدر من عرفتهم وعرفوني، وأيضا من لم يعرفوني بما يكفي أن يسامحوني، وألا يحرموني من دعوة طيبة بظهر الغيب، والله غالب على أمره.