الإرث الحضاري الذي عاشته المدينة المنورة على مدى تاريخها الطويل أشرقت بشاراته

الإرث الحضاري الذي عاشته المدينة المنورة على مدى تاريخها الطويل أشرقت بشاراته الأولى منذ اللحظة التي صدح فيها أهلها بـ ( طلع البدر علينا .. من ثنيات الوداع ) وهم يستقبلون سيد البشرية محمد عليه السلام .
بعيداً عن الأدوار السياسية من حيث كونها أول عاصمة للدولة الإسلامية، تجلت الأدوار الفكرية والعلمية للمدينة، عبر النسيج الحضاري المتكامل في معطياته ومحدداته. هذا النسيج استمر حتى مع انتقال صفة العاصمة منها، وظل يملأ وجدان مجتمعها بالإبداع. على المستوى الشعبي استمدت المدينة إبداعاتها من تلك الذاكرة الضاربة في عمق التاريخ. لتمثل واحدة من حاضرة الحجاز التي تموج بالموروث الزاخر بالعادات والأهازيج ومدارات الفرح التي لاتحد. في طفولتي، سمعت من أمي - رحمها الله- تحدثني عن طفولتها في المدينة عن.. (ليلة الكنيس) واحدة من تلك العادات التي اشتهرت بها المدينة ولكنها تلاشت مع تداعيات الزمان وتغير أنماط الحياة.
كان السادس عشر منذ ذي الحجة، توقيت الليلة، في صبيحتها يتسابق المدنيون بكنس الحرم وتنظيفه، إذ يكون حجاج بيت الله قد انتهوا من أداء مناسكهم وهرعوا بأشواقهم إلى زيارة مسجد الرسول. في هذا اليوم يجتمع غالب أهل المدينة في الحرم، يجلسون على طبقاتهم ومراتبهم بعد صلاة الصبح، ويجتمع معهم حتى الصغار والأطفال، ثم يرفعون البسط والسجاجيد المفروشة في الحرم، يصعدون إلى سطح الحرم وبحوزتهم المكانس لبدء عملية الكنس من السطح.
المكانس المستعملة في هذه المناسبة ذات أياد طويلة تبدأ صناعتها من السعف في بداية ذي القعدة. بينما يكون غالب أولاد المدينة مجتمعين في ذلك اليوم في الحرم يصيحون بعد الانتهاء من كنس السطح (العادة يا سادة) فيرمي لهم الرجال من السطح ما معهم من الكعك والأقراص والنقل فليتقطون ذلك من الأرض. وهذا اليوم يمثل مناسبة فرح يلبسون فيه أحسن الثياب ويهنئون بعضهم ويستبشرون بنداء الأولاد (العادة يا سادة) ويحدث ألا يبقى أحد من أهل المدينة إلا ويأتي إلى الحرم الشريف لكنسه وخدمته.
بعد النزول من السطح يدخلون الحجرة الشريفة ويكنسونها كلها. وبعد فراغهم من كنس الحرم الشريف يخرجون إلى حدائق النخيل وبستان الفيروزية والقرين يأكلون ويلهون ببراءة ويبقون هناك إلى العشاء ثم يعودون بالذكر والنشيد وتخرج النساء والرجال والأولاد للفرجة عليهم ويصير يوماً عظيماً. ولكن هذه العادة انتهت الآن مثلها مثل كثير من العادات التي صادرتها متغيرات العصرعلى نحو عادة (سيدي شاهين) التي كانت ترافق استقبال شهر رمضان. هي فلكلور ساد فترة، يتطلع المحبون لأن تضم أجندة فعاليات (المدينة عاصمة للثقافة الإسلامية) التفاتة لهكذا موروث.