(والآن يا ألكسي، إنك لست ميدالية على صدري، قم واذهب للناس). من تلك اللحظة، انطلق الصبي وانخرط في صفوف الناس ليعاشر أصنافهم، يختبر طبقاتهم، وليذوق مبكرا جدا، مرارة العيش وشظفه، وليكتشف قساوة الحياة، وشناعتها، وليعاني من ظلم المتسلطين على رقاب الناس. مات أبواه وهو طفل، وركله جده لأنه اعتبره ليس ميدالية يعلقها على صدره، ومن لحظتها امتلأت روحه بكره شديد لكل مظالم الأرض، ومفاسدها، ودفعته للتمرد وليردد طويلا جئت إلى هذا العالم كي لا أوافق.
أحب فقراء القاع، التزم بهم والدفاع عنهم. بدأ حياته العملية، أجيرا بمخزن لبيع الأحذية، عمل غسالا للصحون على متن باخرة، وهناك أيقظ فيه الطباخ ميخائيل حب الأدب والكتب. بحوزة الطباخ صندوق ملئ بالكتب، كان الصندوق حسب تعبير غوركي أعجب مكتبة في العالم، إذ حوى مختارات جيدة وجميلة، اختارها الطباخ بعناية، مما فتح أمام الصبي آفاقا واسعة. أما جدته فكانت في صغره قد عرفته بالشعر الشعبي، وما بين التجربتين، وثق غوركي علاقته بالكتب، فعرف الطمأنينة، ووثق بنفسه وأيقن كما يقول (أني لست الوحيد على هذه الأرض، وأني لن أضيع).
استمرت دروب التعب والمعاناة مع غوركي، فعمل صانعا بورشة أيقونات، وعاملا بسوق، وممثلا ثانويا في مسرح. عمل خبازا، وعتالا، وبستانيا، وقليلا في جوقة غناء، إلى أن انصرف لجمع الخرق والأسمال البالية مع المتشردين، وصار يجوب معهم أنحاء روسيا في سني المجاعة الكبيرة التي حاقت بروسيا أواخر القرن الثامن عشر، حين هب الكتاب العظماء تولستوي وتشيكوف وكورلينكو لإغاثة المحتاجين والجوعى الذين يموتون في الطرقات. يومها لم يكن غوركي 1886 - 1936 - مبدع رواية (الأم) التي بشرت بمرحلة جديدة في أدب العالم - قد أصبح كاتبا، كان مجرد جائع، متشرد على الطرقات إلى أن حط رحاله في تيبليسي بالقوقازوهناك كتب قصته الأولى، ولم يجرؤ على التوقيع باسمه الصريح، فوقع باسم مستعار غوركي ويعني المر ومن يومها اختفى اسمه الحقيقي (ألكسي بيشكوف) واشتهر باسم (مكسيم غوركي). وهكذا بدأ حياته الإبداعبة، شاقا طريقه بصعوبة، كتب عن حياة الناس في الطرقات، حين كان متشردا معهم، عاش بينهم في الملاجئ فكتب حكاياتهم وأغنياتهم، فاضحا الواقع الشنيع لروسيا القيصرية، وغرس اسمه في كتاب الأدب الإنساني الخالد الذي لا يموت، ومؤكدا أن الكتابة العظيمة لا تخرج من رفاهية وترف وهبلشة ادعاءات جوفاء.