المعروضات المتناقضة كلها في مكان واحد تعمل على تنافر الإيقاع الداخلي للإنسان، وبالتالي القلق وحمى الاختيار ثم التوتر في الشارع والبيت حتى يصل الأمر إلى وسادة النوم

حينما يتجول الإنسان في ردهات الأسواق ذات الخمسة نجوم يتراءى له أنه لم يعد ابن بيئته أو ابن جلده الذي ينسلخ من فوق جلده كل يوم خمس مرات أو أكثر حسب المقولة المستحدثة، الـستايل أي شكل المكان وأنموذج تم إخراجه حسب وجهة نظر مصممي المناظر، وبحسب مدارسها وبحسب المصادر المستقاة منها. تأملت هذا حينما دعتني صديقة لي وألحت عليّ أيما إلحاح أن أذهب معها إلى مول أي مجمع تجاري على هيئة سوق عام. فذهبت معها بالرغم من أنني لا أحب التجول في الأسواق، ولا أطيق تقلب الأذواق بين الفينة والفينة، من ذوق إلى ذوق، فيفقد الفرد منا القدرة على التذوق، تماما كما يفقد الإنسان- ولو للحظات - حاسة الشم حينما يختبر عدة عطور في آن واحد. والحقيقة أن علم النفس قد أثبت أن هناك نوعا من التوتر والقلق يعتري الفرد منا لحظات الشراء، وذلك إذا تعرض لأنواع كثيرة متناقضة، وسمي ذلك اصطلاحيا بـحمى الاختيار. ومن هنا فلا أحب أن أُعرض نفسي لهذه الحمى، وإن كانت منتشرة في يومنا هذا أشد من حمى الطيور، وحمى الخنازير، والحمى القلاعية، والعديد من الحميات التي تساعد هذه التقلبات في تفشيها وانتشار جزيئاتها بين البشر.
لحظات تأمل في هذا التنافر والاختلاف في البضاعة والمعروضات من حيث التصميمات والمدارس والمناهج والروافد المستقاة منها من شرق الأرض ومن غربها، وسألت نفسي إلى أي مدى يكون انعكاس هذه الصورة على نفس المشتري والمتجول في المول؟ وبطبيعة الحال إذا اختلف الإيقاع في الألوان والأذواق حسب طبيعة البيئة التى وفدت منها، توتر الإيقاع الداخلي للإنسان، والتفسير العلمي لهذه الظاهرة، هي أن التناسق في الإيقاع البصري والسمعي يعمل على اتساق النفس وبالتالي الإحساس بالرضى، أما الإيقاع المتنافر مع إيقاع النفس الداخلي فيحدث العكس. ومن هنا أدركت سبب الضجيج في الشارع، وأصوات الناس العالية حينما يتحدثون، وأيضا أسباب ظهور الموسيقى السريعة والصاخبة، وتوتر الأمهات في مخاطبة أطفالهن، وتوتر الأطفال وصراخهم. كل ذلك نتيجة استقدام أو استيراد كل أنواع السلع من بلاد مختلفة، ووضعها جميعها في مكان واحد، وبطبيعة الحال كل بضاعة تحمل طبيعة بيئتها ابتداء من اللون وانتهاء بالنسب والأحجام والإيقاع في التصميم. هذا التنوع عمل على اختلال الإيقاع بدواخلنا، فسبب لنا هذا الضجيج، الذي لم نكن نعهده في هدأة الحياة التي تحمل خصوصية المكان، والتي تتناسب مع تكوين شخصيتنا. قد يقول قائل: هذه حتمية التطور والطفرة الحضارية والانفتاح على العالم، ولكنني قد تجولت في أسواق أوروبية فوجدت هناك نغمة - أي وحدة - تجمع كل ما تراه العين، وفي هذه الحالة تسبب الاتساق الداخلي وبالطبع هذه الوحدة تنبع من تكوين الشخصية الأوروبية. وفي شرق آسيا تكون الأسواق والمعروضات والموسيقى ذات صبغة خاصة بذات الشعب، حتى وإن استوفدت الكثير، إلا أن الشخصية موجودة في أسواقها، ما عدا في بلادنا، حيث تلاشت الخصائص الخاصة بنا في اللون والخط والكتلة وحتى في الرائحة.
ماذا يعنى مصطلح مول؟ وهل لهذا المصطلح علاقة بما تم تحليله وتفنيده؟ بطبيعة الحال ليس معنى كلمة مول أنه مكان للتسوق كما عهدنا هذا الاسم الدخيل، فحينما بحثت في مصطلح المول، وجدت أن المول (بالألمانية: Mol): هي وحدة قياس كمية المادة، وتستعمل كثيرا في الكيمياء. وهي وحدة أساسية في النظام الدولي للوحدات، وهي واحدة من الوحدات القليلة المستخدمة لقياس كمية فيزيائية، فأدركت حينئذ أنني أسير على الطريق الصحيح، وأدركت مدى علاقة مسمى مول بالفيزياء، فهي وحدة القياس للتخلخل الفيزيائي للفرد بداخله وخارجه، لأن الحواس تُحدث فعلا هذه الخلخلة، إذا ما أضرب إيقاعها، فالمعروضات المتناقضة كلها في مكان واحد بهذا الشكل وبهذه الطريقة، تعمل على تنافر الإيقاع الداخلي للإنسان، وبالتالي القلق وحمى الاختيار، ثم التوتر في الشارع والبيت والمدرسة، حتى يصل الأمر إلى وسادة النوم. ولكن تظل هناك خصلة حميدة وعطية من عطايا الرحمن على هذا البلد والتي لم أجدها في أي من البلاد التي طفت بها. فدعونا نتأمل بين موقفين هما:
الأول: أنني كنت مع صديقة لي في أحد الأسواق الأوروبية، وحين حان وقت الصلاة لم نجد مكانا نصلي فيه. فهذه المدينة ليس بها على قدر وسعها سوى جامع واحد بناه الأتراك، وكان بعيدا للغاية، حينها صعدت أنا وصديقتي سلم أحد العمارات وفي فسحته أقمنا الصلاة، إلا أنه كان يؤرقني أن يًفتح الباب الذي استقبلناه ويخرج منه إنسان فيفاجأ بنا، وقد أقمنا الصلاة على عتبة بابه، ولكننا حمدنا الله أن الصلاة انقضت دون أن يُفتح الباب الذي كاد أن يخرجني من خشوعي. هذا هو الموقف الأول. أما الموقف الثاني: وعلينا أن نقارن، فهو أنني حينما كنت مع صديقتي السالف ذكرها في المول السالف ذكره، أذن حينها مؤذن الصلاة. وبطبيعة الحال أقفلت المحال التجارية أبوابها – ليس هذا هو الموضوع- المهم هو أنني وجدت زحاما شديدا على مصلى النساء بالرغم من اتساعه، حتى إنني وقفت بالخارج وقتا ليس بالهين، كي أجد مكانا أو فسحة صغيرة أصلي فيها بين النساء، أو أن أقف خلف سيدة كي تترك لي مكانها حين تفرغ من الصلاة. نساء هذا البلد التقيات والمصليات والذاكرات ـ أبقاهن الله نبراسا لكلمته ودينه ـ وبعد الصلاة أدركت تماما أننا ما زلنا على خير بإذن الله، بالرغم من هذا الغزو الفكري الواضح في المعروضات، وحتى في المسمى نفسه، في كلمة مول، وأن الحمى والقلق لن يخترقا مكانا تقام فيه الصلاة.