من المستحيل أن تحصل على مزايا الديموقراطية دون ممارسة ديموقراطية. لو كان هذا ممكنا لتخلى العالم كله عن الديموقراطية واستراح من عيوبها، لكن المعجبين بمجلس الشورى يستميتون في البرهنة على هذه القضية المستحيلة

عندما يتعلق الأمر بمجلس الأمة الكويتي، يجوز تداول مسألة (البصم) واستخدام تعبير (التبصيم) و (البصمجية)، أولا لأن المجلس الحاليّ مجلس بصّام كما يبدو من أدائهِ حتى الآن، وثانيا لأن مجلس الأمة سلطة تشريعية مُنتخبة تكفل لممثلي الأمة الحصانة والحرية، وعندما يتنازل عضو عن تمثيل الأمة ليُمثل أيّ جهة أخرى يصحّ وصفه بالبصّام والبصمجي، لأنه (اختار) أن يكون كذلك. كون فعل (البصم) اختياريا هو ما يجعل الوصف منطقيا وذا دلالة. الأمر يشبه وصف (المعاق). يمكن وصف الإنسان بالمعاق، لأنهُ يُفترض ابتداء في أيّ إنسان أنه قادر على المشي، لكن لا يمكن وصف (شجرة) مثلا بأنها معاقة، لأن الأشجار لا تمشي، بل تبقى واقفة حيث زُرِعت إلى أن يقرر المزارع قطعها أو نقلها إلى مكانٍ آخر. تعبير (التبصيم) الشعبي بحدّ ذاته لا يكتسب معناه إلا عند التفكير فيما قد تكون الخيارات الأخرى: الاعتراض؟ الرفض؟ المبادرة؟ الاقتراح؟ المطالبة؟ المحاسبة؟ البصم يعني التخلي طوعاً عن جميع الخيارات الحركيّة المكفولة، بل الواجبة على ممثل الأمة؛ لصالح التبعية لخيارات وقرارات جهة بعينها. ويكتسب البصم معناه الشعبيّ بدقّة أكبر عند ملاحظة الدلالة الأوسع لهذا الخيار، التي تعني تنازل عضو المجلس عن هويته الأساسية كممثل في السلطة التشريعية عن الأمة، واكتسابه هوية طارئة كممثل لقوى سياسية أو اقتصادية أو مصالح شخصية. أفضل خدمة يمكن تقديمها لمجلس الشورى هي الإشارة إلى حالة (البصم) عند الحديث عنه. إثارة هذه النقطة تجرّ النقاش ككل حول المجلس إلى أرضيّة مستعارة (وهذا بألطف تعبير ممكن)، أرضية ذهنية تشمل كل المعاني الديموقراطية التي تـُـستحضر بالضرورة عندما يحضر تعبير (البصم) من حيث هيَ أضداد ملازمة له: السلطة التشريعية، الانتخاب، تمثيل الأمة، الحصانة والحرية. فيصبح النقاش حول مجلس الشورى هو: هل أعضاء المجلس بصّامة أم مستقلون؟ في نوعٍ من تزييف القضية والأسئلة. في الأحوال الاعتيادية، لن يرتاح مجلس استشاري مُعيّن لمقارنته بالبرلمانات المنتخبة، لكن في حالة مجلس الشورى، يُرحّب المجلس والمعجبون به بهذه المقارنة، لأنها هي المدخل عادة لاتّخاذ موقف غريب يتمثل في حالة من التبرؤ من الطبيعة الاستشارية للمجلس، وإصرار على إدخاله ضمن زمرة النماذج البرلمانية الناضجة ذات السلطة التشريعية! يمكن ملاحظة ذلك في الذهنية العامة التي تسيطر على أحاديث وتصريحات أعضاء مجلس الشورى ومُعجبيه، والمنطق الجدلي الذي يوظفونه بغرض الدفاع عن وجود المجلس.
من المستحيل أن تحصل على مزايا الديموقراطية دون ممارسة ديموقراطية. لو كان هذا ممكنا لتخلى العالم كله عن الديموقراطية واستراح من عيوبها. لكن المعجبين بمجلس الشورى يستميتون في البرهنة على هذه القضية المستحيلة. فباستثناء آية الشورى القرآنية، لا توجد في مجادلة المدافعين عن المجلس أية مزايا ذات خصوصية تكوينية تنبني حصريا على التطبيق المحلي للشورى. على العكس من هذا تماماً، يمتلئ الدفاع عن مجلس الشورى بالمفاهيم الديموقراطية والاستماتة لإثبات تحقق هذه المفاهيم الديموقراطية من خلال ذات المجلس! خذ مثلا الطبيعة التمثيلية للمجلس. يدافع المعجبون بالمجلس عن قدرته على تمثيل المواطنين ومصالحهم، وينفون وجود تعارض بين مصالح الأعضاء ومصالح المواطنين، ويؤكّدون على استقلالية الأعضاء في آرائهم. هذه كلها مفاهيم ديموقراطية، ومحاولة إثباتها للمجلس لا تنتهي إلا إلى منطق مضطرب يناقض ذاته، فالأعضاء الذين يمثلون مصالح المواطنين هم أنفسهم الذين يتعالون على أن يكونوا ممثلي أحزاب ويستعيذون بالله من تمثيل التيارات! رغم أن تشكيل الأحزاب وانتخاب أعضائها يمثل أقصى ما يمكن للمواطن فعله لضمان مصالحه! أما عدم تعارض المصالح فلا توجد أي ضمانات لهذا، ويبدو أنه يحدث عن طريق الصدفة المحضة أو السحر مثلاً (وهذا شيء خارق، لأن البرلمانات المنتخبة تتكبد الكثير لضمان هذه النقطة فقط). ثم هناك التأكيد على استقلالية الأعضاء وقدرتهم على المبادرة بالاقتراحات، وهذا يوحي بتوفر خصائص حركية للمجلس تسمح له بفرض الموضوعات التي تهمّ المواطنين واتّخاذ قرارات ملزمة بشأنها. هذه أيضا مفاهيم ديموقراطية، لكن أيّ شخص يعرف المجلس نظاماً وواقعاً يعرف بالضرورة أن هذا لا يحدث. العمل الأساسي للمجلس هو مراجعة وتدقيق الخطط والتقارير. على آخر جدول أعمال منشور للمجلس 144 موضوعاً بين تقرير وخطة ونظام ومعاهدة، و13 موضوعاً مقترحاً فقط. أي ما نسبته 1:11. أما إلزامية القرارات، فنعرف جميعا المشاريع التي أقرها المجلس منذ أعوام ولا تزال مجمّدة أو تُعاد إليه مرة بعد مرة ليُغيّر قراره فيها! ويمكن بهذه المناسبة السعيدة طرح سؤال عن دور مجلس الشورى في تعطيل التنمية وتأخير القرارات؟
ثمة تكلفة عالية لتنصّل المجلس من هويته ونَسب ذاته إلى القيم الديموقراطية. فلماذا يصرّ المعجبون بالمجلس على تبرئته من هويته الشورية؟ جزء من الإجابة يوجد في ضغط الاستحقاق الديموقراطي. كل العالم يتحرك نحو الديموقراطية بشكلٍ أو آخر، وأيّ مُمتنع عن الحركة سيشعر بضغط رهيب ممن أمامه وخلفه وحوله يدفعه غصباً. تحلية اللغة الدفاعية ببعض المفردات الديموقراطية تمثل استجابة واهنة ومخاتلة تخفف الضغط، حالة دعائية أخرى تأمل أن تنجز بالدعاية ما لا تنجزه بالفعل. ربما يشعر المجلس بأزمة وجود. المجلس ككيان والمجلس كأعضاء. الوضعية الدفاعية أصبحت هي الوضعية التقليدية لعضو المجلس ولأيّ معجب بأدائه، يجد نفسه مضطرا لتبرير وجود هذا الكمّ الهائل من المستشارين الذين لا تلزم آراؤهم أحداً. في لقاءاتهم مع نواب البرلمانات حول العالم، يعود أعضاء المجلس دوماً ليؤكّدوا أن برلمانيي الكويت أو أمريكا أو السويد أو فنلندا يقولون إن هذا المجلس أفضل مما لدينا، شهادة توضع في برواز وتعلق على حائط المجلس. ومن اللافت توق هذا المجلس (الأفضل) إلى تجميع الشهادات، وخصوصاً شهادات الدول الديموقراطية.