حديث الرئيس الفلسطيني، عكس بشكل بائس توازن القوى بين الفلسطينيين والصهاينة. وجاء في صيغة تنازل من الضحية إلى الجلاد. فقد أكد مرارا، من غير مقابل، على اعتراف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بمشروعية وجود الكيان الغاصب
في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ألقى الرئيس أبو مازن خطابا تاريخيا طالب فيه المجتمع الدولي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، على جزء صغير، لا يتجاوز الـ 20 بالمائة من فلسطين التاريخية. وفي خطابه هذا، شدد مرارا وتكرارا على اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بالكيان الإسرائيلي، مؤكدا في صيغة لم تكن مألوفة من قبل بالأدبيات الفلسطينية أن إسرائيل وجدت لتبقى.
بالمقابل، ألقى رئيس الكيان الصهيوني الغاصب، بنيامين نتنياهو خطابا أشار فيه إلى أن اعتراف الإسرائيليين بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، لن يتحقق من خلال الخطابات بالأمم المتحدة، بل من خلال التفاوض المباشر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واعتراف السلطة الفلسطينية بيهودية دولة إسرائيل.
الخطير في تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية أنه تضمن جملة من الأهداف التي تنتقص من الحقوق الفلسطينية، وتهدد مستقبل الوجود الفلسطيني ذاته.
فالحديث عن دولة فلسطينية منزوعة السلاح، يعني أن تكون هذه الدولة رهينة باستمرار للتدخلات العسكرية الإسرائيلية، تحت ذريعة القضاء على المقاومين الفلسطينيين. ويعني ذلك أيضا أن يظل بقاء السلطة الفلسطينية باستمرار، مرهون بتماهي سياساتها مع السياسات الإسرائيلية.
أما اشتراط الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، فإنه يحمل مخاطر أكبر للوجود الفلسطيني، والأمن القومي العربي. فهو من جهة يعني إغلاق الباب نهائيا، على مسألة حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم. فهو وفقا لتوصيف الكيان الغاصب، باعتباره دولة خاصة باليهود، ومغلقة عليهم، يعتبر اللاجئين غرباء على الدولة الإسرائيلية، كونهم لا ينتمون إلى الديانة اليهودية.
والجانب الآخر، أن مطالبة إسرائيل للمجتمع الدولي، بالاعتراف بيهودية كيانها، تحمل هدفا متضمنا، بطرد الفلسطينيين الذين يشكلون نسبة تتجاوز الـ 25 بالمائة، من سكان الكيان الصهيوني، ولم يغادروا أرضهم، إثر نكبة فلسطين عام 1948. إن ذلك يطرح احتمال وجود كارثة لاجئين فلسطينيين جديدة، تضيف ثقلا آخر، لقائمة الحقوق العربية المهدورة. والمؤكد أن السلطة الفلسطينية، التي تنوء ما لديها من أعباء، وتمارس سلطتها المنقوصة على بقعة صغيرة من الأرض، لن يكون بمقدورها استيعاب ما يقرب من المليونين من اللاجئين الجدد.
إن الأكثر احتمالا، في حالة تحقيق مبدأ يهودية الكيان الغاصب، هو أن يعاد استحضار مشروع الوطن البديل، الذي جرى الإفصاح عنه منذ عدة عقود. وبموجب فكرة الوطن البديل، يزج بالبقية الباقية من الفلسطينيين المقيمين على أرض فلسطين التاريخية إلى الأردن، ويتحول الأردن لوطن بديل لجميع الفلسطينيين. وقد وجد كثير من المحللين والمراقبين في مشروع الوطن البديل، ليس خطوة على طريق إقفال ملف العودة للأبد، وطرد الفلسطينيين المقيمين بالأراضي التي احتلت عام 1948م، بل أيضا وهو الأخطر، مقدمة للإجهاز على البقية الباقية من فلسطين التاريخية، بقضم الضفة الغربية ومدينة القدس وقطاع غزة، وضمهما إلى الكيان الغاصب، بعد طرد الشعب الفلسطيني من جميع هذه المناطق.
حديث الرئيس الفلسطيني، عكس بشكل بائس، توازن القوى بين الفلسطينيين والصهاينة. وجاء في صيغة تنازل من الضحية إلى الجلاد. فقد أكد مرارا، من غير مقابل، على اعتراف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بمشروعية وجود الكيان الغاصب، على أرض هي بحكم حقائق التاريخ والجغرافيا أرض فلسطينية. والأمر كما صار جليا، هو أن هذا التنازل، يقدم لعدو لا يزال يمارس عملية النفي للوجود وللحقوق الفلسطينية جملة وتفصيلا. وربما رأى السيد أبومازن، أن التعبير عن حسن النوايا، قد يؤدي إلى تفهم أفضل من قبل العالم والقوى العظمى بشكل خاص، لمشروعية النضال الفلسطيني، وكأن القضية هي مسألة وعي بجدل الصراع وحقائقه، في حين أنها صراع إرادات تحكمها القوة.
وحتى لو افترضنا جدلا، أن العالم على استعداد لتلبية مطالبنا، كما هي مطروحة من قبل السلطة الفلسطينية، وكما طالب بها السيد أبو مازن في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك أمر لا يوجد لدينا أية عناصر تشي بإمكانية تحقيقه، فإن الدولة الفلسطينية المستقلة، سوف تقام على أقل من 48 في المائة من أراضي الضفة الغربية، وسوف تترك باقي الأراضي للصهاينة، في صيغة مستوطنات وممرات ومعابر، وهو ما لا يتسق مع التضحيات، والدماء الزكية، والمطالب والآمال التي ناضل من أجلها الفلسطينيون، منذ مطلع القرن المنصرم، حتى يومنا هذا.
هناك قضايا لا يمكن الجدال حولها، أهمها أن موازين القوة الآن ليست في صالح النضال الفلسطيني. وأن العلاقات بين الدول العربية ليست في أفضل حالاتها. وهناك أيضا حقيقة انحياز القوة العظمى ممثلة بالولايات المتحدة الأميركية، بشكل فاضح للمشروع الصهيوني. وقد قدم العرب عبر الأربعة عقود المنصرمة، مبادرات متتالية، أكل كل منها من الحقوق الفلسطينية، بحيث لم يبق لدينا ما نتفاوض عليه.
هناك خطوط حمراء تحدثت عنها عدة مبادرات عربية، ينبغي أن تظل حاضرة في أية محاولات للتوصل إلى حل سلمي للأزمة. هذه الخطوط الحمراء تتمثل في رفض وجود مستوطنات صهيونية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وانسحاب العدو الصهيوني إلى حدود ما قبل حرب الخامس من يونيو 1967م، واعتبار القدس الشريف عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة المرتقبة، وعدم التفريط في شبر من الأراضي المحتلة، وإبقاء ملف اللاجئين مفتوحا، ورفض طيه تحت أية ظروف، ما لم تتحقق مطالب اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم أو التعويض لهم عن ممتلكاتهم، ويكون ذلك رهنا بخياراتهم الوطنية، ولا يفرض عليهم من أية قوة خارجية.
هذه الحقوق، ليست رهنا لتوازنات القوة، ولا بالحقائق السياسية السائدة على الخارطة الدولية. إنها حقوق ثابتة للشعب الفلسطيني ينبغي التمسك بها، ورفض التفريط بأي منها. وإذا لم يكن بالمستطاع الآن تحقيقها، فليس البديل هو التفريط بها. فليس أسوأ من عدم القدرة على تحقيق النصر سوى الاعتراف النهائي بالهزيمة، وذلك ما لا يتسق ولا يليق بأمة تملك عبق التاريخ وعمق الجغرافيا، كما هو حال أمتنا العربية، التي لا يليق لحضورها سوى التمسك بالثوابت وتحقيق مستلزمات النصر.