بسبب الأزمة المالية قامت الحكومة الأميركية بمراجعة نظم الإشراف والرقابة على البنوك والمؤسسات المالية، لحمايتها وتشجيع المستثمرين على العودة إلى أسواق المال، وأسست هيئة جديدة لحماية المستهلك، اتخذت قرارات جريئة لإنصاف المستهلكين، فما هو الحال لدينا؟

أكتب هذا الأسبوع من وول ستريت ـ المركز المالي في نيويورك ـ التي ما زالت تحاول الإفلات من براثن الأزمة المالية العالمية. وقد دفعت هذه الأزمة الحكومة الأميركية لمراجعة نظم الإشراف والرقابة على البنوك والمؤسسات المالية، وأسست هيئة جديدة لحماية المستهلك أمامها، حيث قامت هذه الهيئة بفرض عقوبات موجعة على عدد من المؤسسات المالية، مما اضطر بعضها إلى أن تكون أكثر حرصاً ووعياً باحتياجات المستهلك، وقلقه من حيث التكاليف والمخاطر والعوائد وغيرها.
وبالمقابل في المناطق التي لم تمسسها الأزمة بسوء كثير، مثل منطقة الخليج، فإن الإصلاحات قد ركزت على تعزيز قوة المؤسسات المالية، أما فيما يتعلق بحماية المستهلك، فإن الأمور ما زالت كما كانت قبل الأزمة، أي دون حماية إضافية.
ونعرف أن الأزمة أطاحت بشركات عملاقة، وفي الوقت ذاته كشفت ممارسات مضللة وضارة في أسواق المال. وقد أدى اكتشاف تلك الممارسات إلى هرب المستثمرين، بأعداد كبيرة، من الأسواق المالية، مما أدى إلى انهيار شبه كامل في تلك الأسواق. وبسبب ما اكتُشف من أخطاء، اجتهدت شركات الاستثمار نفسها لاستعادة ثقة المستهلك، وسعت هيئة الأوراق والأسواق المالية إلى مساعدة المستهلكين في تقييم أوعية الاستثمار المختلفة، بتحليل التكاليف والتبعات المترتبة على المستهلك، في حين تعمل المنظمات غير الحكومية على تحليل تلك الاسثتمارات من حيث المخاطر والعوائد والتكلفة أيضا.
ثم قامت الحكومة الأميركية عملياً بإعادة هيكلة نظم الإشراف والرقابة على المؤسسات المالية، ولتوفير حماية أكبر للمستهلك، وتشجيعه على العودة، أسست حكومة الرئيس أوباما هيئة اتحادية جديدة هي مكتب حماية المستهلك المالي، على الرغم من معارضة القطاع المالي ونواب الحزب الجمهوري في الكونجرس لتأسيسه.
بدأ المكتب عمله في يوليو 2011، وهو مسؤول حسب قانون إنشائه عن حماية المستهلك للمنتجات المالية المختلفة، سواء كانت بطاقات ائتمان، أو قروضاً شخصية أو عقارية أو دراسية، أو صناديق استثمار، أو غيرها. ويساهم المكتب في إعداد وتنفيذ القواعد التي تحكم البنوك والمؤسسات المالية الأخرى مثل شركات الاستثمار والتقسيط والتحصيل والمصادرة، بما يوفر الشفافية وحماية المستهلك، ويتولى التفتيش عليها. كما يقوم بالتحقيق في شكاوى المستهلكين والبت فيها.
ويجمع المكتب الجديد بذلك في يده الاختصاصات المختلفة، التي كانت تمارسها الجهات الإشرافية المتعددة في الحكومة الفدرالية بهذا الخصوص، ويتلقى المكتب كل أسبوع مئات الشكاوى من المستهلكين، وقام بحملة إعلامية لتشجيعهم على تقديم المزيد من الشكاوى.
وبعد مرور عام على ممارسة أعماله، ومع أنه لم يحظ حتى الآن برضى جميع المستهلكين والمنظمات غير الحكومية، إلا أنه بدأ يُحدث أثراً ملموساً. ولذلك أصبح هذه الأيام أحد مواضيع الحملة الانتخابية الرئاسية، حيث يدعمه الرئيس أوباما ويهاجمهه خصمه الجمهوري.
وعلى الرغم من عمره القصير، كان لبعض قراراته دويٌّ في الصحافة. ففي الأسبوع الماضي، أعلن قراره ضد بنك ديسكفر، أحد أكبر البنوك التي تصدر بطاقات الائتمان، حيث ألزمه بإعادة مبلغ (200) مليون دولار، حصل عليها خلال ممارسات خاطئة، إلى نحو (3.5) مليون مستهلك. وبالإضافة إلى ذلك، حكم على البنك بغرامة مالية قدرها (14) مليون دولار. وفي شهر يوليو، كان للمكتب قرار مماثل بحق بنك كابيتال ون، حيث ألزمه بإعادة (140) مليون دولار إلى نحو مليوني مستهلك، إضافة إلى غرامة (25) مليون دولار.
ونتيجة لهذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة أصبحت المؤسسات المالية الأميركية أكثر حرصاً ووعياً باحتياجات المستهلك، ولكن الدول والمناطق التي لم تمر بتجربة مماثلة مع الأزمة المالية لم تقم بمراجعة من نفس المستوى للمؤسسات المالية من وجهة نظر المستهلكين، وبالتالي لم تتبنَّ إجراءاتٍ إضافية لحمايتهم. ولنأخذ مثالين من بطاقات الائتمان وصناديق الاستثمار.
في الولايات المتحدة كانت هناك احتجاجات ضخمة وصلت إلى أروقة الكونجرس ضد رسوم وفوائد بطاقات الائتمان التي كانت مرتفعة على الرغم من انخفاض تكلفة الإقراض. وقد دفعت الاحتجاجاتُ ـ وما نتج عنها من قرارات ـ البنوكَ إلى إلغاء الرسوم السنوية تماماً على بطاقات الائتمان، وتخفيض الفوائد والرسوم الأخرى بشكل كبير.
وبالمقابل، فإن البنوك لدينا ما زالت تقوم بفرض رسوم سنوية عالية، إضافة إلى رسوم الفائدة (بأسمائها المختلفة) التي تصل إلى 27% لأفضل العملاء. على الرغم من أن العوائد على الودائع لا تتجاوز 1% هذه الأيام.
وهناك مشكلة مشابهة في صناديق الاستثمار، حيث تفرض المؤسسات المالية رسوم اشتراك لدى بداية الاستثمار، بصرف النظر عن الفترة الزمنية للاستثمار وأدائه. ولها أسماء مختلفة، ولكن تأثيرها واحد، فهي تقلص حجم الاستثمار من بدايته، بنسب تتراوح بين 3% أو 5% أو أكثر. وقد أثبتت الدراسات أنه ليس هناك فرق في الأداء بين الصناديق التي تفرض رسوم اشتراك، وتلك التي لا تفرضها. ولذلك كانت هناك حملة احتجاج ضد هذه أيضاَ، مما أدى إلى تقليصها، بل قامت شركات استثمارية كبرى مثل فانجارد وانفسكو (تديران بينهما استثمارات بقيمة 2.4 تريليون دولار) بإلغائها كلية.
وبالإضافة إلى رسوم الاشتراك، تفرض صناديق الاستثمار رسوماً سنوية لإدارتها، وهي محددة كنسبة من قيمة الصندوق بصرف النظر عن أدائه، إذ تُدفع حتى لو خسر الصندوق. وتأتي هذه الرسوم بأسماء مختلفة، ولكنها أكثر قبولاً لدى المستهلك من رسوم الاشتراك.
وقد رأينا كيف أجبر وعي المستهلك، بعد الأزمة المالية العالمية، شركات الاستثمارالمالي إلى مراجعة رسومها وإلغاء بعضها، ودفع الحكومات إلى تبني قوانين جديدة، ومؤسسات جديدة، لحماية المستثمر المالي. ولكن في المقابل، فإن الدول التي لم تتأثر بالأزمة بشكل حادّ لم تقم حتى الآن بمراجعة تلك الرسوم، حيث ما زالت تفرض رسوم اشتراك (في البداية) ورسوم إدارة وغيرها، بحيث تصل الرسوم إلى نسبة عالية من الاستثمار تتجاوز أي عائد يمكن أن يحققه الاستثمار.