عربيا، أضحى الفهم السطحي للوطنية يتزعم الموقف في شكله الظاهري الذي يخلو تماما من مقاصد التطبيق الفعلي، وقد شهد الربيع العربي وتوابعه على ضحالة فهم الشعوب العربية لمعنى الوطنية وكنهها
وطني الحبيب وهل أحب سواه، وطني الذي قد عشت تحت سمائه، وهو الذي قد عشت فوق رباه. عظيم هو الوطن الذي يتغلغل في كل قطرة دم فيك، في كل خلية من جسدك. عظيم هو الوطن الذي تتنفس هواءه وتستطيب العيش فيه. إحساسنا بالوطن هو أكثر من معنىً بنبض الحياة. الوطن عملاق يتطاول في أعماق وجداننا.. نأخذ منه حلمنا، وطيبتنا، وشموخنا، وبأسنا، وتفاصيل شخصياتنا. الوطن ليس مجرد أرض نعيش عليها فقط، بل إنه إحساس العيش على الأرض أيضاً.
كثير منا يردد مفردات (الوطن والوطنية والمواطنة)، وتختلف حول مفهوم هذه المصطلحات رؤيتنا وتصرفاتنا وردود أفعالنا، ويضعنا في مواجهة حقيقية مع تطبيقات متفاوتة لكل فرد على حدة. أو كل تناول فكري يسعى لتقرير وعي ما للمصطلح من وجهات نظر يمكن وضعها تحت التطبيق العملي. وهو ما يلقي بظلاله على المحاولات الأكاديمية التي تسعى لطرح هذه المصطلحات تحت مجهرها، وسبر أغوارها واحداً تلو الآخر، لكننا هنا سنتناول مصطلح (الوطنية) تحديداً لمناقشة أصوله وجذوره التاريخية، ومدى استيعاب الجماهير العريضة له.
لقد ظهرت بوادر تقرير ماهية مصطلح الوطنية في أوروبا وفي منتصف القرن الثامن عشر حسب بعض الروايات التاريخية. وحملت في طياتها البدائل الجديدة للحالات النفسية التي تدعمها العواطف تجاه نزعة قومية بعينها، ووضعها البعض بديلاً للمفاهيم الدينية التي سيطرت في حقب تاريخية كثيرة على المشهد الإنساني بأسره، لكن تلك السيطرة بقوتها لم ترتق على أية حال إلى ما يعنيه مصطلح الوطنية بكينونته ومقاصده، ولم تتوافق في أي زمن مع السياقات الفلسفية له.
لقد ارتبط مفهوم الوطنية عند بعض المفكرين العرب بالذهنية التاريخية الدينية (كما تزعمه العقلية الدينية في كثير من أطروحاتها)، وحاولت جاهدة التأصيل لذلك من منظورها ومنطلقاتها الفكرية، وحاولت تجييش بعض شواهد التاريخ الإسلامي والعربي، ومستعينة بالموروث العربي وما جاء في الأدبيات (الشعرية) التي ذكرت أو مجدت الأوطان، والذي برأيي لم يكن في صفها لتفعل ذلك كاستدلال بما ذهبت إليه أو أرادته، إذ إن ما استشهدت به لم يعدو كونه تحولات سياسية تاريخية ألقت بظلالها على رقعة الأرض العربية. أخذت شكلها من سياق التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعالم من حولها، واستمر قصور الوعي العربي تحديداً بمفهوم الوطنية إلى يومنا هذا، وهو ما أثر تباعاً على التطبيقات واليوميات لكل المجتمعات العربية. وهذا الخلل في الواقع ليس جديداً على الذهنية العربية حول مسائل كثيرة إحداها تعريف مصطلح (الوطنية)، ويؤدي قطعاً إلى استمرار حالة الفقر الإبداعي على كل المستويات لأمة بأكملها.
لقد أضحى الفهم السطحي للوطنية يتزعم الموقف في شكله الظاهري الذي يخلو تماماً من مقاصد التطبيق الفعلي. لقد شهد الربيع العربي وتوابعه على ضحالة فهم الشعوب العربية لمعنى الوطنية وكنهها، وأفرزت كعادتها ما تحت البثور من التردي المعرفي وممارساتها غير الواعية في مشهد الشارع مثال حي، إذ تلخص الوطن في أذهانهم بصورة الرئيس، أو الزعيم، أو الحاكم، وعليه فقد تركزت ردود أفعالهم في التخريب والتدمير والتحطيم والنهب لكل شيء تقع عليه أو تطاله الأيدي، ومن أعقد ما تركه التخبط الثقافي بمفهوم الوطنية، هو استساغة فكرة التآمر على الوطن بدعوى الإصلاح، وتغيير نظام سياسي أوواقع اقتصادي!
إن تصوراً أحادياً كهذا للوطن هو اختزال كئيب يلغي مفهوم الوطنية والإحساس بها جذرياً. ويضعنا في مواجهة صريحة مع ذوات يائسة تجد في القشة أعذاراً كبيرة تبرر من خلالها أفعالها المتناقضة. وتبعاً لذلك القصور المعرفي والثقافي تنتفي فكرة المدنية والتمدن الظاهرة على شكلانية المجتمعات العربية، فتنهار تبعاً لذلك بمأساوية لا رحمة فيها، لأنها في الأصل ليست مؤسسة بشكل مُتقن يستقي وعيه من مضامين واعية بماهية الوطن والوطنية. وتنكشف منتكسة على نفسها دون وعي، وهذا أمر طبيعي كنهاية حتمية لطريقة التلقين التي تربت عليها الذهنية العربية لفهم ما الذي تعنيه الأوطان، وماهية الوطنية.