وزارة التعليم الفنلندية تشرك المعلمين في وضع المناهج وعمليات التطوير التعليمية، وتمنحهم استقلالية تامة في إبداع طرق التدريس، كما تمنح الطلاب الحرية في الحوار وإبداء الرأي والمشاركة في التطوير التعليمي

لم أكن الزائر الوحيد من المملكة العربية السعودية لدولة فنلندا الأسبوع الماضي؛ فقد سبقني وفد وزارة التربية والتعليم برئاسة أحد وكلاء الوزارة، وسبقنا قبل أسابيع وفد المؤسسة العامة للتعليم المهني والتدريب الفني، وقد سبقتنا من قبل جامعة الملك عبدالعزيز في إبرام اتفاق تعاون مع بعض الجامعات الفنلندية، وسبقتنا جميعاً طالبة الماجستير السعودية الوحيدة التي تدرس على حسابها الخاص تخصص الإدارة التربوية للتعليم الفنلندي الأستاذة سارة عبدالقادرة الخريجي التي تسعى جاهدة لنقل تجربة التعليم الفنلندي للمملكة العربية السعودية، رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجهها. وفي العام الماضي بادرت الغرفة التجارية الصناعية بجدة بتخصيص إحدى جلسات منتدى جدة الاقتصادي عن التعليم الحديث وتجربة بعض الدول المتقدمة في العالم وعلى رأسها فنلندا صاحبة التجربة المتميزة في تطوير التعليم النظامي لتصبح هي الدولة الأولى عالمياً، متقدمة على الولايات المتحدة ودول أوروبا ودول القارة الآسيوية والأفريقية وأميركا الجنوبية ومتقدمة على جيرانها من الدول الإسكندنافية.
ورغبة في التعرف على هذه التجربة الناجحة أمضيت الأسبوع الماضي في زيارة استطلاعية ومعرفية لبعض المؤسسات التعليمية لمدينة هلسنكي، ويتسائل البعض عن أسباب تقدم فنلندا علمياً على المستوى الدولي، وكيف وصلت إلى نسبة 100% في تعليم شعبها؟ حيث تبنت الحكومة الفنلندية مجانية التعليم لشعبها ابتداء من الدراسة والكتب المدرسية والوجبات الغذائية، وأولت اهتماماً خاصاً بذوي الاحتياجات الخاصة. وعلى المستوى الجامعي تبنت الدولة مجانية التعليم لطلبتها وصرف مكافأة شهرية لطلاب جامعاتها تصل إلى ثلاثمائة يورو شهرياً، أي أكثر مما يحصل عليه الطالب في الجامعات الحكومية السعودية، مع تأمين السكن المجاني اللائق أو صرف بدل السكن المناسب شهرياً، وركزت على الاهتمام بالمدرسين من حيث التأهيل، حيث اشترطت أن يحمل المدرس مؤهل درجة الماجستير في التخصص مع رخصة تربوية متخصصة في التدريس ليصبح مقبولاً للتدريس في المدارس النظامية، ويتسابق خريجو الماجستير المتخصصون للحصول على وظيفة أستاذ في المدارس الفنلندية للميزات التي يحصل عليها، ابتداء من المرتب الشهري الذي يصل إلى حوالي خمسة عشر ألف ريال شهرياً للمبتدئ، وثلاثون ألف ريال كسقف للمرتبات لأصحاب الخبرات الطويلة، ويتم قبول نسبة 10% من المتقدمين لوظيفة أستاذ من إجمالي المتقدمين للمدارس الحكومية. ويضم فريق المدرسين في المدارس نسبة جيدة من الأساتذة حملة درجة الدكتوراه المتخصصة. والدولة تعطي اهتماماً خاصاً متميزاً للمعلمين كما يحصلون على تقدير خاص من المجتمع، ويصنفون ضمن الفئة المميزة في المجتمع، والتدريس هو حلم المتميزين الأوائل في فنلندا، ووزارة التعليم لم تعتبر المعلمين مجرد موظفين يتقاضون أعلى الرواتب بل اعتبرتهم شركاء لها في وضع المناهج التعليميةن كما أشركتهم في عمليات التطوير التعليمية ومنحتهم استقلالية تامة في الإبداع في طرق التدريس، ومنحت الدولة الطلاب الحرية في الحوار وإبداء الرأي والمشاركة في التطوير التعليمي، وخصصت الدولة معلما لكل 12 طالبا في الحضانة والتمهيدي، ومعلما لكل 15 طالبا في الابتدائي، ومعلما لكل 12 طالبا في الثانوي.
إن ما تصرفه حكومة فنلندا من ميزانية على التعليم يعتبر متوسطاً بل متواضعاً أمام ما نصرفه من ميزانيات ضخمة على التعليم في المملكة، ولم نستطع أن نصل إلى ربع ما وصلت إليه هذه الدولة الصغيرة.. لقد أثبت تعليم فنلندا أن العبرة ليست بمقدار الميزانيات المرصودة والمصروفة على التعليم ولكن العبرة في مدى كفاءة وفاعلية عملية التعليم والقائمين عليه. وكما قال أحد كبار المسؤولين في التعليم الفنلندي إن فنلندا ليس لها سبيل في المنافسة عالمياً إلا عن طريق الاستثمار في التعليم والتدريب، وكانت نتائج هذا التوجه بأن أصبح اقتصاد فنلندا متقدماً ومنافساً لدول أوروبا، وأصبحت فنلندا شعاراً لثقافة الابتكار والإبداع.
لقد سنحت لي الفرصة بالتنسيق مع شركة أيديو كلستر (EduCluster) التي تملكها بعض الجامعات الفنلندية لزيارة بعض المدارس الحكومية الفنلندية وهي الأفضل والأحدث، بنيت لتكون أنموذجاً للمباني الحديثة التي تراعي البيئة وتضمن أجواء الدراسة المثالية في مبان أسمنتية ومبانٍ حديدية وخشبية. انتهت زيارتي لفنلندا وأنا أتساءل: أين نحن من تعليم فنلندا؟ أين نظامنا التعليمي من نظام فنلندا التعليمي الذي وضعها في المرتبة الأولى؟ أين نحن من نظام البناء للمدارس في فنلندا التي تبني مدارسها من المباني الأسمنتية والمباني الحديدية والخشبية؟ أين نظام فنلندا للمباني من نظام الدفاع المدني السعودي الذي يمنع المباني الحديدية والمباني الخشبية أو القواطع الخشبية والجبسية في المدارس السعودية؟ أين شروط نظام البلديات السعودية في بناء المدارس السعودية بالمقارنة مع شروط بناء المدارس في فنلندا؟ أين المدرس السعودي المتميز الحاصل على درجة الماجستير والدكتوراه؟ أين المميزات والمحفزات الجاذبة للشباب المتميز لأن يقدموا على مهنة التدريس؟ لماذا نهتم بكم المواد ولا نركز على نوعيتها؟ لماذا لا نعمل على تطوير مناهجنا كل خطة خمسية؟ ولماذا لا تتحول مدارسنا من مدارس تلقين وتحفيظ إلى مدارس حوار وإبداع وتفكير؟ أين نحن من نظام التصنيف العالمي للمدارس؟
أسئلة عديدة في ذهني لن تقلل من الجهود الكبيرة التي يبذلها زملائي المسؤولون في وزارة التربية والتعليم، إلا أن العبرة بالنتائج، وأكبر مقياس لنوعية مخرجات مدارسنا في المملكة هي اختبارات القبول في الجامعات، حتى أصبح خريجو المدارس السعودية يمثلون عبئاً على الجامعات لإعادة بنائهم علمياً.