بواعث الحمق الثوري مثلت الغطاء المناسب للجهات الاستعمارية المستفيدة من طي صفحات النظام الليبي السابق، فهل يلقي السنوسي نهاية متقنة الحبك تحصد حياته إرضاء للمزاج الثوري فيما تحافظ على القرص المرن المخبأ في تلافيف ذاكرته؟

أسأل إن كان جيلنا سيتمكن من تصفح الرواية الكاملة حول مصير ومعتركات الثروة في بعض البلدان العربية والإسلامية أم يكون مصير الحقائق على شاكلة الثروة نفسها؟ فلا الحقيقة تعرف ولا المال السائب يسترد.. ذلك ما كنت أفكر به خلال متابعتي إجراءات تسليم رئيس المخابرات الليبي إلى سلطات بلاده بعد أشهر من مصرع معمر القذافي.
حدث مقتل الرجل وسط ذهول شعبي عربي واسع كان ينتظر بشغف إطلالة الحاكم النرجسي وهو يروي من خلف القضبان، قصته مع الثروة طوال أكثر من ثلاثة عقود لم يفوت منها دقيقة واحدة دون ملهاة هنا ومأساة هناك، جعل نظام حكمه يتعدى نطاق الكارثة الوطنية إلى تعكير أجواء الاستقرار والسلام العالمي.
ولئن كانت بواعث الحمق الثوري مثلت الغطاء المناسب للجهات الاستعمارية المستفيدة من طي صفحات رأس النظام الليبي السابق، فهل يلقي رجل الاستخبارات عبدالله السنوسي نهاية متقنة الحبك تحصد حياته إرضاء للمزاج الثوري فيما تحافظ على (القرص المرن) الخبيء في تلافيف ذاكرته..؟ وماذا لو أن سيناريو المحاكمات الهزلية التي رسم الغرب مسارها في مواجهة رموز النظام العراقي السابق غدت أنموذجا يعاد تطبيقه بالنسبة للسنوسي وسيف الإسلام القذافي؟!
وبطبيعة الحال فإن الحرص على محاكمة عادلة وضمان إجراءات تحقيق جنائي بمعايير تلتزم مبادئ حقوق الإنسان يظل محل أولوية قصوى لدى المشتغلين بصناعة الرأي العام، ويتعين ألا يفهم رأينا كما لو كان دعوة للانتقام أو تحريضا على انتزاع ما في جعبة المستبدين من أسرار، ولكننا نراهن على مستوى تطور المعارف الجنائية وقدرتها على تحويل لحظة ضعف المستبد إلى عوامل استجابة طوعية ومتاحات تطهر من أردان الماضي، وهو الأمر الذي يدعو حكومات الربيع العربي إلى إكساب تجاربها مضمونا إنسانيا يغلب مصالح الشعوب على أحقاد السياسة ويرخي حبل المشنقة من عنق المستبد مقابل مصداقيته في كشف وقائع الماضي وحقائقه.
سيقال اعتراضا أن لكل دولة بحث وتقرير نوع التدابير المتخذة ضد رموز نظامها السياسي السابق، وربما عُدّ الحديث عن نجل القذافي ورئيس الجهاز الاستخباري عبدالله السنوسي انتقاصا من السيادة الليبية وقضائها الوطني وقوانينها النافذة، ولسوف يبدو الاعتداد بالنصوص الدستورية والقانونية – الموروثة من التشريعات العربية المفصلة بمقاس الحاكم ورغباته الاستبدادية – منطقيا غداة تطبيقها في محاكمة رموزه، إذ يتجرع المستبد من نفس الكأس الذي أعده لخصومه..
غير أننا لا نبحث الأمر من زاوية الاختصاص المكاني والقضائي، وإنما نتداول في موضوعات شراكة عقدتها حقب الاستبداد عنوة بين الضحايا، سواء كانوا محليين أو عربا ومسلمين، وعداهما متضررون كثر شملتهم سياسات التمييز القذافية وغمرتهم تعويضات الخزينة العامة للمستبد الأخرق.
سوف يكون علينا وضع أجيالنا القادمة في صورة الأوضاع التي عشنا مرارتها وحاولنا إزاحتها بغية الوصول إلى مرافئ السلامة.. فهل نفعل ذلك بوحي من تصوراتنا الاتهامية فقط أم أن الواجب يقتضي التوثيق وعرض الأدلة وتقرير الوقائع؟
إن أشد فجائع الأمة استنادها على تأريخ مشوش يفتقر للدقة ويفتقد عنصر الأمانة، ويتم تطويعه في تلبية حاجات المنتصر ورغباته الجامحة لطمس معالم الماضي.. وما أحرانا اليوم باحترام عقل المجتمع وضمان حقه في معرفة الحقائق وتوفير سبل الوصول إليها.
أحسب أننا في اليمن معنيون بملف النظام الليبي البائد وتحديدا يمكن القول بوجود مساحات جغرافية عريضة محفوفة بالمخاطر ولا يجرؤ أحد على الانتفاع منها وما يزال الموت والإعاقة الدائمين يحصدان المزيد من الأبرياء اليمنيين دون توقف، وهو مشهد مقزز تجاوز ثلاثة عقود، وظلت آثاره المروعة طريقها إلى العدالة الوطنية أو الدولية لتستقر في جيوب البعض من الساسة اليمنيين الذين اقتصر همهم على البراعة في استغلال معاناة الإنسان وإحالتها إلى مادة للابتزاز.
الحكاية بدأت عام 1978 بقرار حاكم ليبيا إرسال 5 ملايين لغم لمساعدة اليمنيين على تحقيق وحدتهم وإقامة نظام سياسي بمواصفات القذافي، ورسم عنايته المتقلبة، ولنا أن نتخيل مقدار المساعدات المالية التي أغدقها الرجل على البؤر المكلفة بإنجاز المهمة.
ومن قبيل التطمين فإننا لا نفتح هذا الملف بهدف الحصول على تعويضات ولا بغرض دفع الحكومة الليبية الحالية لإنشاء مراكز للأطراف الصناعية تعنى بمساعدة المعاقين قدر اهتمامنا بمعرفة حيثيات القرار والأطراف التبادلية المسؤولة عن تنفيذه في كلا البلدين.
وقد لا تكون الحاجة لمعرفة الدوافع المشار إليها بذات القدر من الأهمية التي انطوت عليها عمليات الابتزاز اللاحق باسم أرواح وإعاقات الضحايا مرة وباسم الأخوة وجسور التواطئ والكتمان طورا وعلى ذمة الاعتزاز بتضحيات القذافي وخطاه التاريخية على درب المبادئ المضرجة بالدماء.
لهذا فقط تهمنا أسرار وملفات النظام الليبي السابق.. يهمنا أن نعرف لماذا اختارنا الدكتاتور مسرحا لتجاربه النرجسية؟ وهل كانت تلك إرادته الذاتية المحضة أم رغبة قيادات سياسية واجتماعية يمنية تستقطب مختلف الألغام وتخطب كل الأورام ولا تكترث بكرامة وطن ومصير دولة وشعب؟! وهنا نسأل: أليس عدلا أن نعرف الحقيقة باعتبارها مدخلاً للصفح وأولى بدروس العبرة والعظة من نصب المشانق؟