عندما رصد علي الوردي سلبيات الشخصية العراقية، وقبله ابن خلدون سلبيات الشخصية البدوية؛ لم ينطلقا لما توصلا إليه من دافع كره أو عنصرية، ولكن أرجعا هذه السلبيات لمعطيات جغرافية ومعيشية محددة، والعمل على زوال هذه المعطيات حتماً سيزيل هذه السلبيات

عندما تطورت العلوم الإنسانية في القرنين الماضيين، كان جزء من تطويرها والرقي بها، تقسيم مواضيعها إلى تخصصات، وتخصصاتها إلى تفرعات؛ للاستفادة منها الاستفادة الدقيقة، التي تنعكس بالخير على الإنسانية جمعاء؛ مثلها مثل شقيقاتها العلوم المادية الصرفة. ومن هذه التخصصات في العلوم الإنسانية التي تطورت، قبل غيرها، بشكل مبكر، هو علم الاجتماع. منذ أن دشنه ونظر له العالم العربي الكبير ابن خلدون، في القرن الثاني عشر الميلادي، حتى رسم قواعده ووضع خطوطه العريضة العالم الفرنسي أوجست كونت، في بداية القرن التاسع عشر الميلادي. وعلم الاجتماع مثله، مثل باقي العلوم الإنسانية، تفرع منه تفرعات، أصبحت تخصصات بحد ذاتها، مثل الأنثروبولوجيا والأثنولوجيا وعلم النفس الاجتماعي، والتي أخذت تركز على قراءة شخصيات الشعوب، أو كما تم التعارف عليها بشخصية الإثنيات أو البلدان، مثل الشخصية الأميركية والشخصية الألمانية والشخصية العربية والشخصية الصينية والشخصية الهندية.. إلخ.
ولا يجب أن يغيب عن بالنا، كون تخصصات دراسة وقراءة شخصيات الشعوب كانت في البداية نابعة من حاجة استعمارية أوروبية، للسيطرة على الشعوب المراد استعمارها بسلاسة، والاستغناء عن الطرق الصدامية التي من الممكن أن تعقد عملية السيطرة عليها وتجعلها مكلفة لها؛ وتوحي بالخطوط العريضة الفاعلة في إدارة شؤونها الداخلية وتوطيد العلاقة بها، لأطول مدة ممكنة، ولو بعد الانسحاب منها. وبعد أفول حقبة الاستعمار المباشر وظهور الدول الوطنية؛ لم تغب الحاجة لقراءة ودراسة شخصيات الشعوب، حيث أصبحت حاجة وطنية ملحة. وذلك كون خطط التنمية الوطنية الناجحة، عندما تستند لقراءة ودراسة واعية ومحايدة، لشخصية الشعب، تكلل بالنجاح ولا تصطدم بعقبات قد تعوقها أو تفشلها. فالهدف من قراءة ودراسة شخصية شعب ما؛ هو التعرف على السلبيات والإيجابيات التي يتمتع بها هذا الشعب. ومن مهام خطط التنمية القضاء على سلبيات الشعب قدر المستطاع وتفعيل وتدعيم إيجابياته بأقصى درجة ممكنة وتسخيرها لصالح خططه التنموية.
وهنالك استخدام غير شرعي أو عدائي لقراءة الشعوب؛ عندما يتم إبراز سلبيات شعب ما، دون ذكر العلل الدافعة لتلك السلبيات وسبل وطرق التخلص منها، وكذلك إغفال إيجابياته. فمثل هذه القراءة المختزلة والمنزوعة من سياقها العلمي، تتم إما بدافع عنصري وإما بدافع إيجاد المبررات لشن حرب غير عادلة ضده. هذه القراءة السلبية أو العدائية لشخصيات الشعوب، هي التي نجدها تنتشر في الإعلام والصحف الصفراء؛ سواء تتم بوعي أو دون وعي ممن ينشرونها أو يسمحون بنشرها. وكما هي حقيقة، بأن كل إنسان له سلبياته وإيجابياته؛ فكذلك حقيقة لا جدال حولها، بأن لكل شعب سلبياته وإيجابياته؛ حيث هو وعاء أفراده.
في مقال لي سابق مصر الثورة.. بناء الدولة وبناء الشعب، تعرضت لبعض من إيجابيات الشخصية المصرية، مثل كونه شعبا منتجا ومسالما ويمتلك حسا وطنيا عاليا ومتدينا بطبعه؛ لنيله الجاري وأرضه الخصبة وموقعه الجغرافي، الذي يشكل بوابة طبيعية تربط القارات الثلاث القديمة آسيا وأوروبا وأفريقيا، وبنفس الوقت، محروس بالبحر من الشمال والشرق والصحراء من الغرب والأودية والغابات من الجنوب، ويعتبر الشعب المصري أعرق شعب في التاريخ ينضوي تحت مؤسسات دوله. ولذلك فليس بالمستغرب أن تكون الثورات المصرية، رغم كونها ثورات؛ إلا أنها ثورات بيضاء سلمية لا تقترن بسفك الدماء، ولا تنتقم ممن تثور عليهم. ولذلك فنحن ندرس شخصية شعب ما، لنتعرف على ما يمكن أن نتوقعه منه الآن، في سلمه وحربه.
في تاريخ 1 /7 /2012، نشرت الزميلة جريدة الشرق، مقالا للكاتب محمد واني، بعنوان شخصية العراقي المتناقضة، يعتبر وبحق دليلا على سوء استخدام قراءة شخصية الشعب العراقي، حيث ومن خلال اجتزائه، لبعض مقولات العلامة الاجتماعي العراقي علي الوردي وعزلها عن سياقها البحثي والتحليلي، توصل للحكم على الشخصية العراقية بأنها متناقضة لدرجة المرض، الذي أتعب جيران العراق، بمن فيهم الكويت والأكراد. المقال ينضح بالعنصرية والتحيز ضد الشعب العراقي، برغم كون الكاتب يورد مقولات للعلامة العراقي الوردي وغيره؛ لكن المصيبة تكمن في نزع هذه المقولات من سياقاتها.
الشعب العراقي مثله مثل الشعب المصري، دشن أول وأعرق الحضارات في تاريخ الإنسانية؛ كما أنه، بفضل أرضه الخصبة التي يخترقها نهرا دجلة والفرات، هو وبحق شعب منتج ولا يعيش عالة على غيره، بل يعيش غيره من جيرانه على خيراته. ولكن الإشكالية في العراق أنها برغم كونها أرض خير ووفرة، إلا أن موقعها الجغرافي هو موقع مكشوف، بعكس مصر، ويقع بين مفترق طرق مهم وخطير، يربط شرق آسيا بغربها؛ ولذلك فمعظم التغييرات المطلوب إحداثها بغرب آسيا من جهة شرقها أو المطلوب إحداثها بشرق آسيا من جهة غربها، يمر حتماً بالعراق. ولذلك فالعراق منذ ما قبل التاريخ وحتى وقتنا الحاضر وهو يتعرض لغزو واحتلال وتدمير، من كافة القوى القريبة والبعيدة عنه. حيث موقعه الجغرافي لا يساعده على حماية نفسه؛ لدرجة أن بعض الملوك البابليين والآشوريين شيدوا وحاولوا تشييد المزيد من الأسوار العالية لحماية العراق من جهات الخطر الخارجية المحتملة عليه.
ومعظم الغزاة للعراق منذ القديم، لا يتمكنون من السيطرة على العراق، إلا بعد قتل ومجازر وتخريب في أرضه ونهب لخيراته. وهذا انعكس سلباً على شخصية العراقي خاصة السياسي، الذي أصبح لا يثق كثيراً بمن حوله، ويتوقع الشر والمؤامرات عليه من كل حدب وصوب. ولذلك فقد يشن السياسي العراقي هجوما استباقيا على من يتوجس منه هجوما عليه، ولو كانت الأدلة على ذلك ضعيفة. إذاً فحل مشكلة التوجس من الآخر الأزلية التي يعاني منها العراقي، بسبب وفرة خيرات أرضه وانكشاف موقعه الجغرافي للطامعين به؛ يكمن في تأمينه من أي اعتداء خارجي عليه، وذلك بتطبيق قوانين الأمم المتحدة والجامعة العربية، وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية واحترامها، والتي تحرم الاعتداء على الدول المستقلة والتدخل في شؤونها الداخلية والعبث بأمنها وثرواتها.
لقد قرأ الملك فهد، رحمه الله، الشخصية العراقية قراءة واعية ومسؤولة؛ ولذلك طلب تحديد الحدود بين المملكة والعراق، أيام الرئيس صدام حسين، ووقع معه معاهدة عدم اعتداء، وأسقط الديون عن الحكومة العراقية. ولو فعل زعماء باقي الدول العربية المجاورة للعراق آنذاك، نفس ما فعله الملك فهد، لتجنبنا وتجنب الشعب العراقي كل المآسي والكوارث التي تبعت غزو العراق للكويت وما تلاها حتى يومنا هذا. الحجاج بن يوسف عاقب العراق على علته ولم يشفه منها.
عندما رصد علي الوردي سلبيات الشخصية العراقية وقبله ابن خلدون، سلبيات الشخصية البدوية؛ لم ينطلقا لما توصلا إليه من دافع كره أو عنصرية، ولكن أرجعا هذه السلبيات لمعطيات جغرافية ومعيشية محددة، أي بأن العمل على زوال هذه المعطيات، حتماً سيزيل هذه السلبيات. وهكذا يجب أن يستخدم العلم، لصالح الإنسان ومعافاته، لا لإدانته وعقابه والتحذير منه؛ وإلا أصبحنا مثل الأطباء الذين يلعنون المرضى، بدل أن يشخصوا لهم أمراضهم ويصفوا لهم العلاجات المخلّصة لهم من أمراضهم وعللهم.