التطرف ـ بوصفه حالة ـ منهج ينظر إلى داخله أكثر، بل يهمل النظر تماما إلى غير ذلك. ولو فعل لمرة واحدة فقط سيدرك ربما حجمه (سلبا أوإيجابا) وموقعه الثقافي بين الأمم

اللغة الوحيدة التي تمتلك أنياباً (ملونة) وليست متلونة هي لغة التطرف. فبالعودة إلى جذر الكلمة (طرف)، سنجد أنه يراوغ قبل أن يرسو على جهة ما أو ناحية بعينها. وهذا ما يذهب إليه المعنى الميكانيكي للكلمة. لكن المصطلح الاشتقاقي (التطرف) يعقد الأمور أكثر. فالتعريف الأول للمصطلح المُشتق هو التعريف النمطي الذي يقول بأن التطرف ماهو إلا صورة وصفية لأفعال وأفكار جهة ماء، لها خصوصية شكلية وعملية. وتوصف بأنها أفعال وأفكار غير مُبررة وغير مُستحسنة. وتدخل ضمن نطاق الأيديولوجيا الفكرية أو الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية. لكن أهم تلك الأيديولوجيات وأخطرها على الإطلاق هي الأيديولوجيا الفكرية. ويفسر البعض مصطلح التطرف على أنه ما يمكن إطلاقه على أعمال العنف أو التخريب أو التحرك العنيف باتجاه معاكس لنمط معيشة اجتماعية ما، أوكل أعمال لها صفة التأثير السلبي على طريقة عيش مجتمع أو منهجية سياسية أو اقتصادية. (وهذا من أقبح وأسوأ أنواع التطرف، وهو بالتأكيد الفعل الذي لا يمتلك أية قيمة أخلاقية أو خلاقة). وكل جماعة تلتصق بمثل هذه الممارسات سيلتصق بها المصطلح حتى وإن كان شكلانياً بالدرجة الأولى. لكن البحث يجب ألا يكون باتجاه واحد، فمثل هذا التناول برأيي سيجنح بمتبعيه إلى خارج منطقية البحث الواعي المنظم. وقد يخرج المتناول غير الواعي بمفهوم المصطلح إلى استنتاجات فراغية لا يقبض فيها الباحث على شيء من صلب المعنى الحقيقي للمصطلح. وهنا يظل كالسابح في الفراغ. فلا هو زار المعنى ولا هو ظفر بالمفهوم، اللهم إمساكه بالشكل لا أكثر. قد يفسر البعض قراءتي هذه وتوصيفي هذا بأنه تضخيم لأمر المصطلح، لكنه في الواقع جزء مهم من محاولة الوعي بالمصطلحات من الطريق الصحيح الذي يتحرر من سيطرة العواطف وجنوحها المزاجي. إذ إن علينا أن ندرك أن أي تقصير في محاولات البحث بوعي إشكاليات ثقافتنا سيضعنا حتماً على طريق التعثر الدائم. ولنتمكن من الاقتراب أكثر سنقرأ في شكلانية فهم المصطلح أولاً. فمثلاً كل فصيل يتبع أو يؤمن بمنهج ما لن يصف نفسه بالمتطرف، (فاليساريون، واليمينيون، والماركسيون، والدينيون، واللادينيون، والعنصريون، ووو....) والحزبيون عموماً لم ولن يصفوا أنفسهم يوماً بالمتطرفين. بل إنه لم تشهد الوقائع التاريخية على حدوث ذلك، لكن الوصف دائماً ما يأتي من خارج الفصيل أو المجموعة. وهذا يدل على أن التطرف ـ بوصفه حالة ـ منهج ينظر إلى داخله أكثر، بل يهمل النظر تماماً إلى غير ذلك. ولو فعل لمرة واحدة فقط سيدرك ربما حجمه (سلباً أوإيجابا) وموقعه الثقافي بين الأمم. لن أستطيع وصف التطرف بالفكر العاجز، فالتطرف قد يكون ذا قيمة أخلاقية عالية أيضاً، كالتطرف لحب الجمال وفعل الخير والمحبة والسلام والتسامح، والثقافة الإبداعية –الرسم، الغناء، الرياضة- وغير ذلك من الأفعال التي تؤثر بشكل إيجابي على حالة دوران عجلة المجتمع فكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً. ولن يكون في مقدور أقوى نظام سياسي، أو أعتى دولة في العالم مقاضاتي إذا ما قلت بصريح العبارة إنني متعصب ومتطرف للجمال والحب والأخلاق. (وهذا يُعطي انطباعاً واضحاً وصريحاً يشير إلى وقوع المصطلح في قبضة السياسيين والمصالح السياسية أكثر).
يقول عالم علم الاجتماع (جيروم هيميلستاين): في أحسن الأحوال هذا الوصف التشخيصي لا يدل على شيء محسوس عن الأشخاص الموصومين به، وفي أسوأ الأحوال يرسم صورة خاطئة.
إنّ تصنيف شخص أومجموعة أوعمل كمتطرّف في أغلب الأحيان هو تقنية لتحقيق هدف سياسي، خاصة لدى الحكومات حيث يستعمل لتمرير قوانين معينة، أوحتى شن الحروب. بدلا من اعتبار أنفسهم متطرّفين، أولئك الموصومون بهذا المصطلح يميلون لرؤية الحاجة للأعمال المتطرّفة في حالة معيّنة. لكن دانتي (صاحب الكوميديا الإلهية) يقول في جحيمه: الأماكن الأسخن في الجحيم محجوزة لأولئك الذين، يظهر حيادهم أثناء الأزمات الأخلاقية. وهو ما يعني عدم حيادية طريقة استخدام المصطلح ووقوعه تحت سيطرة جهات معينة تهتم بمصالحها الشخصية أولاً. وقصور البحث والتقصي عن مفهوم المصطلح هكذا، هو برأيي تطرف من نوع خاص أستطيع وصفه بالأنانية الفكرية. فالمنطق نفسه يرفض فكرة قبول التطرف حتى لو كان يتبع هذه المنهجية. إذ قد يتحول في لحظة ما إلى سلوك شاذ وعنيف وغير متصالح مع أحد، ولا يمثل طريقة وعي المجتمع أو الجماعة بيوميتها الفكرية أو العملية، فينتج عن ذلك احتمال وقوع معطلات لبعض القيم التي يعتنقها المجتمع ويعتمدها لتسيير يومياته.