لم -أنا مختلف؟- لم لم أتنبّه لذلك من قبل؟ لماذا لم أتحرك أنا وتركت الغير يقوم بما يجب أن يكون؟ هل أنا ضعيف، متعال، متعجرف، أو غير مبال بما يحدث للغير من حولي؟
في رحلة الحياة، نقابل الكثير ممن لا يمكننا أن ننسى، شخصيات لديها القدرة على التخلل إلى ذاكرتنا وأرواحنا وترك آثار لا يمكن أن تمحى، لديهم تلك الهبة، ذلك السحر الذي يجعلهم مؤثرين في حياة الغير، غريب أو قريب، صديق أو جار، عالم، أو معلم، كاتب، أو شاعر، أديب، أو فيلسوف، هل هي لحظات، ساعات، أم عمر بأكلمه؟ لا يهم، هل يعرفوننا بقدر ما عرفاناهم؟ لا يهم أيضا، المهم هنا أنهم تركوا ذاك الأثر الذي قد يكون كالنسمة على الروح أو كالإعصار.
منهم من يجعلنا نستيقظ من سباتنا العميق لنرى أن الحياة جميلة من حولنا، وفي أحلك ساعات العمر تأتيك كلماتهم لتصب الماء على نار القهر، قد لا تغير كلماتهم واقعنا، ولكنها كلمات الأمل تنبهنا لنتحرك ولا نقف نندب حظنا العاثر، ونؤلف قائمة الأعداء ونقضي جل أوقاتنا في التخطيط للانتقام والتحطيم وعليّ وعلى أعدائي، لا يهم إن ضحينا في سبيل ذلك بمن نحب، أو عرّضنا آخرين للأذى ممن لا نعرف وليس لهم دخل في الموضوع من أصله، لكنه التخيل، طعم لذة الانتقام الذي يستحوذ على مداركنا، ويطبق بظلال الحقد على أرواحنا، فلا نعود نفرّق بين الحق والباطل، وبما أن العالم يدور من حولنا، ونحن المركز، إذن حين نتألم لا بد أن الغير هو السبب، ويجب أن يدفع الثمن! فكيف ننسى من يخرجنا من عالم الظلام إلى الحياة؟!
ومنهم من لا نعرف، مرّ في حياتنا كأنه حلم أو رؤيا، لحظات لقاء في المكتب أو السوق أو حتى على متن مركب أو طائرة، لم يتحدث إلينا، لم يلتفت تجاهنا، ولكن سلوكياته تجاه موقف ما، علمتنا الكثير، فتتساءل في نفسك: لم أنا مختلف؟ لم لم أتنبّه لذلك من قبل؟ لماذا لم أتحرك أنا وتركت الغير يقوم بما يجب أن يكون؟ هل أنا ضعيف، متعال، متعجرف، أو غير مبال بما يحدث للغير من حولي؟ لا أحتاج أن أعطي أمثلة عن مثل هذه الخبرات التي أنا متأكدة من أنها مرت علينا كثيرا في زخم حياتنا، ولكن المحظوظ منا هو فقط من تعلّم، من حُفِرت الذكرى في نفسه، من يسترجع هذه الشخصيات إلى مراكز الانتباه، وأحيانا كثيرة دون أن يطلبها، فيعيشها من جديد.
والسؤال هنا هو لماذا لا يمكن أن ننسى هذا النوع من البشر؟ الإجابة بسيطة لو تعمقنا داخل أنفسنا وأدركنا الأسباب التي تجعلنا لا ننسى، إنهم طينة مختلفة من البشر، نعم مختلفة، تجد كل سمات الإنسانية تفيض من قلوبهم وتصبّ على من حولهم شلالات من المحبة والود والعطاء، يحبون الخير للجميع ولا يجرحون مشاعر الغير حتى ولو كان ذلك على حساب راحتهم وراحة أعصابهم، لا يفرضون أنفسهم، ولكن نورهم يتغلغل داخلنا كسر إلهي، نعمة من الرحمن، فتسطع قلوبنا بمحبتهم، ذاك الحب الذي يشفي الأرواح من الوحدة والألم، ويبعث الابتسامة إلى الشفاه كلما تذكرناهم، ونحاول على قدر استطاعتنا أن نقلدهم في تصرفاتهم وطرق تفكيرهم، إنه التحام روحي، انسجام متكامل بحيث إنه أحيانا لا يرى الأخطاء وإن كانت جليّة، لأنها ببساطة ليست بالحجم الذي يعكر صفو ذاك الالتحام، إنه الذكاء العاطفي الذي يمكنهم من الدوران حولك بشعاع يملؤك بهجة وسرورا، منهم من يجعلك تعرف ماهية المحبة، ومنهم من يعلمك كيف تفكر، ومنهم من يعلمك العزة والكرامة، ومنهم من يأخذك في رحلة داخل عالم الخيال أو التاريخ أو المنطق فتنمو وتشتاق للمزيد، رحلات مع سحر الكلم، وروعة الإبداع، وعبير الطبيعة التي كثير منا لا يعرف كنوزها لو أنه فقط دخل عالمها.
ويأتي التذكر، أحيانا في أوقات غريبة، مع خيوط الفجر وهي تتسلل من نوافذنا، مع قهوة الصباح، في طريقنا إلى العمل، في لحظات التأمل، الوحدة أو حتى في زحام الشارع وبين الناس، وتتملكنا الذكرى في لحظات لا يشعر بها سوانا، ونبتسم فيظن من حولنا أننا نستخف بحديثهم، أو أننا أصبنا بهوس لا سمح الله، ولكن كيف لهم أن يعرفوا ما تأثير بريق الذكرى حين يشق خلايا الوجدان؟! نتذكر أناسا لم نقابلهم سوى للحظات أو لساعات، وقد يكون مجرد لقاء على صفحات من الورق، ربما كنا معهم منذ لحظات، أو ربما رحلوا عنا دون عودة، قد يكون باختيارهم أو باختيارنا أو بعلم وتقدير الرحمن، ولكن قوة تأثيرهم في حياتنا لا تمكننا من أن ننساهم، وكيف ننسى؟! بعض الناس لا يمكن أن ننساهم، بل لا نريد أن ننساهم، لا نريد أن نشرد مشاعرنا في عالم أصبح جل همه الأنانية، المصالح الشخصية، البحث عن أخطاء الغير، ورسم العدو في ملامح كل غريب! عالم فيه من يقول: لا يهمني الغير، أنا ومن بعدي الطوفان، ليس لدي القدرة على المواجهة أمشي بجانب الحائط طالبا الستر والأمان، ما لنا وما لهم، دعهم كالفخّار يكسر بعضه! أخاف إن بقينا هكذا أن نتحول فخارا ويأتي من يكسرنا ويغرقنا، ويهد على رؤوسنا كل حائط! فلنتذكر ونبتسم ونعد للحياة لنساعد ونتعلم.. إنها الذكرى.. فكيف ننسى؟!