(الذين يتحدثون عن المثاليات كثيرا، هم أبعد الناس عنها). لا أتذكر الآن أين قرأت العبارة، أو سمعتها، المهم أنها من مخزون الذاكرة، أسترجعه، وأنا أسمع، أن نظام ساهر المروري أسهم في تقليص الحوادث. والآن الكاميرات تنصب في الشوارع عند الإشارات تمهيدا لضبط قانون تجاوز الإشارة.
حين انطلق ساهر، ضج كثير من الخلق، رغم أن معظم هؤلاء الخلق يتذمرون كثيرا من السرعة الجنونية، وتهور كثير من الشباب والمراهقين وصغار السائقين. والمفارقة، أنه كان من بين الممتعضين والمتذمرين نفر من الكتاب والمثقفين، ما يجعلك تتساءل مستغربا عن كيف لا يدافع (الكاتب/المثقف) عن النظام وصرامة القانون، وكيف ينساق – لست تدري بوعي أو دون –خلف أصوات الجماهير، فيكون تابعا لهم! وهذا لا يعني الإقرار بعدم وجود هنات وثغرات في تطبيق (ساهر) ما قد يبرر الامتعاض الذي قوبل به، لكن بالمقابل، لم يكن يليق بنا الاستمرار في السكوت عن شيوع ثقافة التهور في قيادة السيارة، التي أودت بالآلاف من الناس، وهي ذات النتائج المريعة من ضحايا قطع الإشارات، وتجاوز القانون في تخطي خطوط المشاة عند الوقوف بالإشارة.
هنا أجدني أتساءل عن تناقض موقف المثقف، وعدم اكتراثه بتعويد أكثر الناس في المجتمع على احترام القانون، الذي يفترض أن يكون المثقف في مقدمة المطالبين والداعين إليه.
دعك من مقولة مثل (انتهاء زمن النخب) وما إلى ذلك، من مقولات منشؤها مجتمعات حققت شروط التمدن، وأفرادها يقاربون النخب لأنهم يقرؤون. وهنا أستحضر الصورة الذهنية التي باتت غالبية الناس في المجتمعات العربية ترددها، وتتأسى على أننا لسنا كمجتمعات الغرب نقرأ في كل مكان.. نعترف بالقصور، ونردده بتلذذ لكننا لا نتحرك قيد أنملة للتغيير. ربما يرى البعض أن طبيعة الحياة، وحركة الفرد في تلك المجتمعات تهيئه للقراءة، من حيث توفر بنى خدمات تحتية، كخطوط المترو، ووسائل النقل العام، التي تفرغه للقراءة، بينما العربي، إما مطحون في قيادة السيارة، وسط بشر محتقنين، يتراكضون بلا هدى، أو ماشيا تطحنه هموم الوقت، مما يجعل فعل القراءة في الأماكن العامة شبه مستحيل، بينما هو فعل متاح في المجتمعات الغربية، في الحدائق والمتنزهات، مما يجعل المسافة تتقلص وتضيق بين النخب والجماهير، فيتوافق الاثنان في الانتصار للقانون والنظام، بينما يهرع غالبية المثقفين لدينا لمحاولة الانتصار للمواطن حتى وإن كان يقود سيارته بتهور وعنجهية وكأنه امتلك الشارع وحده، مما يحول دون تحقق مدنية العيش كثقافة تحترم القانون، وتهابه.