رياضة الوثب العالي اخترعها الإغريق بسبب حاجتهم لعبور الأنهار والأودية والحواجز التي يضعها الأعداء في المعارك.. يقال إن نجاح الوثبة يعتمد على سرعة الانطلاق وزاويته، وأن متعة هذه الوثبة تتمثل في الدوران في الهواء أو المشي أو أي حركة تحمل معها روح الاستمتاع قبل توديع الحاجز والهبوط إلى الأرض وسط تصفيق الجماهير في الجهة الأخرى من الحاجز.
تقول لي مرشدة طلابية إن تلميذة يتيمة كان أخوها الأكبر يمارس معها فنون الترهيب، كانت تُفتقد من بعض المعلمات في المجمع الكبير أثناء الحصص، وفي كل مرة كانت تظهر في النهاية بطريقة ما حتى تفاجأت المدرسة بصراخها، ليكتشف الجميع أنها كانت تضع طاولات لتقفز من على السور وتغادر المدرسة ثم تعود بنفس الطريقة، لكنها هذه المرة سقطت سقطة شنيعة كسرت على إثرها ساقها.
لا أحد يعرف بالضبط ماذا كانت تفعل خلف السور بعد كل تلك الوثبات أو من كان ينتظرها في الجهة الأخرى وهل كان يصفق لها أم لا؟
الهيئة لم تقصر مطلقا في سرد قصص الفتيات المحترفات في الوثب، وإن تنوعت قفزاتهن، فمرة إلى بائع في بقالة، ومرة إلى خياط، وثالثة إلى سائق ليموزين، وفي إحدى المرات كان السباك. في بعض الأحيان كن فتيات متعلمات وأحيانا مراهقات صغيرات.
إن المتأمل في تلك القفزات يوقن أنها تمت دون تحديد نقطة انطلاق أو مسافة كافية للجري، هي مجرد محاولة للقفز أو الهرب من شيء قاس ومؤذ في الخلف، أو استجابة مجنونة لرغبات محرمة، لذا كان السقوط مدمرا ومهلكا ومؤذيا للجميع، حتى لنا نحن الذين نقرأ ثم نلتفت لصغيراتنا ـ نسأل الله أن يحفظهن ـ ونتساءل بيننا وبين أنفسنا ما هو الخطأ الذي أدى لكل هذا؟ ومن يشارك في دفعهن للقفز؟ ومن كان دوره يستلزم حفظهن من القفز؟
الأسرة، المجتمع، المدرسة، والجامعة، وإرث ضخم من العادات والتقاليد التي تردد أمامها أنها شرف العائلة وأنها شعرة وجه أخيها وأنها مثل البيضة إذا انكسرت يستحيل إصلاحها.
لقد انشغلنا جميعا ببناء السور ونسينا الأزهار كما يقول المثل، وها هي الأزهار تتعلم القفز، فلا تنتظر من يقطفها بل تقطف نفسها بنفسها وسط ذهولنا جميعا.
لا يوجد حل سحري يوقف هذا الهدر الأخلاقي، لكن يوجد الكثير الذي يجب أن نقف عنده، وأوله الحنان والعطف والمحبة.. إشعار هذه الفتاة أنها إنسان يملك خيار حياته، ونكتفي نحن بدور زارع القيم في داخله، والدال على مواطن الخير بالترغيب لا بالترهيب، فلم تعد تعنيهن قصص مغسلي الموتى من الفتيات اللواتي يمتن وهن يرتدين الجينز مثلا! الحوار معهن واحترام منطقهن وقبله الاعتراف بحقهن في مشاعر الحب، فلا فائدة من الإنكار لأنه يبعد الأم ولا يقربها، فلا تعلم بعواطف ابنتها إلا في اليوم التالي للقفزة.. إشغال أوقاتهن بما فيه نفع لهن في المكتبات العامة والأندية الثقافية والرياضية التي تحتوي هواياتهن بدلا من التسكع في الأسواق والمقاهي.
لن ينفعنا مطلقا أن يكون هناك موقع ثانوي للفتاة واهتماماتها في بلادنا، لأنها أم مجتمع المستقبل.