في الدول النامية قد ينزلق المجتمع إلى الفوضى قبل وصوله إلى الحرية، هذه المرحلة حتمية لا مناص منها، يدفع فيها المجتمع الضريبة، ويتطلب تجاوز هذه المرحلة توفر ثقافة الحرية التي تعد ضرورة تسبق ممارستها في أي مجتمع

يقال إن نابليون بونابرت كان جالسا في أحد المقاهي، وجلس إلى جانبه شخص لا يعرفه، وبعد وقت قام هذا الشخص بمدّ إحدى يديه وهو يتثاءب وبشكل يوحي بعدم المبالاة بمن حوله حتى اقتربت يده من المساس بأنف نابليون، فغضب نابليون ونظر إلى الرجل باستغراب مطالبا إياه بعدم تكرار ذلك! ولكن الرجل لم يكترث وقال مخاطبا نابليون هذا ليس من شأنك، أنا حرّ وفي بلد الحرية، فأجابه نابليون نعم أنت حرّ، ولكن بشرط ألا تصل حريتك إلى أنوف الآخرين.
هذا الشرط للحرية الذي وضعه نابليون بكل بساطة وعفوية يعد بمثابة الخط الفاصل بين الحرية والفوضى، وإذا لم يرسم هذا الخط بشكل واضح لجميع أفراد المجتمع فإن الفوضى والتعدي على الآخرين سوف يرتكبان باسم الحرية، والخاسر هو المجتمع بالتأكيد. فالحرية يجب ألا تكون عرضة لمجرد اتباع هوى النفس أو الاندفاع لإشباع الدوافع والانقياد للرغبات الشخصية الفردية وذبح الفضيلة والاستهتار بالأخلاق العامة دون اكتراث بالآخرين.
من يعتقد أن هذه هي الحرية فهو من الذين لا يزالون يعيشون في مرحلة المراهقة الفكرية ولم يصل إلى مرحلة البلوغ في عمر الحرية. فما هي مساحة الحرية المسموح بـها للشـخص من قبل الآخرين، وما هي ضوابطـها ومتى يجب أن تتوقف ومن الذي يمتلك الحق في تحديد قيود الحرية؟ هل الشخص هو الذي يضع حدود الحرية لنفسه أم أنها توضع له من قبل الآخرين أم أن هناك سلطة عليا تقوم بهذه المهمة؟
علاقة الإنسان بالإنسان هي أهم عقد اجتماعي ينظم علاقة أفراد المجتمع ولا يتوقف عند المصالح الفردية ويراعي مصلحة الجميع، وأي إخلال بهذا العقد أو تجاوزات بحجة الحرية يجب منعهما ورفضهما، وهذا هو دور الدستور وضعيا كان أم سماويا الذي يفترض أن يكون الضامن لحدود حرية الرأي وحرية السلوك، ويجب أن يرقى إلى درجة عالية من التنظيم لضمان استمرار العيش الكريم للجميع، ولذلك فإن هذه العلاقة ليست من البساطة لتترك للرغبات الفردية.
ويبدو أن عدم الوضوح يزداد ويصل إلى درجة الفوضى في الدول حديثة العهد بالحرية، خصوصا أن الكثير من بنود العقد الاجتماعي غير مكتوبة، رغم كونها أسسا متفقا عليها من قبل الغالبية العظمى، وتنتج عن ذلك ممارسات لا تمت إلى الحرية بأي شكل، بحجة الحرية الشخصية، ويلاحظ أن الفرد في الشعوب حديثة العهد بالحرية يسيء فهم واستخدام وممارسة هذه الحرية بشكل أكثر بسبب نقص ثقافة الحرية، فتجد من يصرخ في كل حين وفي كل وقت بأنه حرّ، ويعتقد أن هذه الحرية مطلقة وليست عليها قيود.
بعض القيود على الحرية هي اجتماعية بالدرجة الأولى ومن أجل ضمان التعايش وعدم المساس بحقوق الفرد التي يجب ألا تحمل تعارضا مع حقوق المجتمع، كما أنه من الضروري وجود إطار مرجعي أو سلطة عليا يمكن الاحتكام إليها لمعرفة حدود الحرية، فالدول التي توجد لها دساتير مكتوبة ومتفق عليها لا تعاني من الخلط في هذا المجال كما هو حال الدول التي لا يتوفر لها ذلك، وكلما زاد الغموض في وضوح مفهوم حرية الرأي أو حرية السلوك ارتفعت تكلفة ضريبة الحرية. فتجد من يرسم لك الحرية من منظوره الشخصي ويريد أن يدخلك في دائرته الشخصية التي يعتبرها هي دستور الحرية، وتجده في نفس الوقت لا يعترف بحدود الآخرين ولا يحترمها ولا يرى أن لهم حقا في الحرية.
المرحلة الانتقالية في الدول النامية تعد أخطر مرحلة وقد ينزلق المجتمع إلى الفوضى قبل أن يصل إلى الحرية، ولكن هذه المرحلة حتمية لا مناص منها، ويدفع المجتمع فيها ضريبة الحرية ويتطلب تجاوز هذه المرحلة توفر ثقافة الحرية التي تعد ضرورة بالغة، ويجب أن تسبق ممارسة الحرية في أي مجتمع. لأن امتلاك أفراد المجتمع لثقافة الحرية الخاصة بهم وبالآخرين ومعرفتها بشكل جيد سوف ينتج عنهما وجود درجة عالية من الوعي الاجتماعي، حتى يتمكن المجتمع من تجاوز هذه المرحلة، وإلا فإن المجتمع سوف ينزلق إلى الفوضى التي قد تدفع المجتمعات النامية إلى الدخول في مرحلة من الصراع وعدم الاستقرار.