حين خلق الله الأرض، لم يقسمها بين البشر بحسب عقائدهم ومذاهبهم وإنما جعلها أرضا مشاعة تتوازعها الأنواء وتتباين فيها الأجواء بما يتوافر وينسجم مع كل الرغبات والمتطلبات
بعد معايدة الأهل والأقارب والأصدقاء، غادرت برفقة العائلة في إجازة قصيرة إلى لوقانو في سويسرا.
وكنت في غرفتي مطلا على الخضرة الزاهية والحقول العامرة بالزهور والورود التي يشيع عطرها في المكان، حيث يمكن للساكن أو الراكب أو الماشي أن يواجه بحيرة لوقانو التي تحيط بها المباني والأوتيلات من كل طرف، وهي البحيرة التي تغري المراكب واليخوت والمراكب الشراعية بالإبحار فيها صباح مساء، ومع انغماسك في المتعة والسعادة المحفوفة بحسن تعامل السكان للسياح الوافدين ستلمس كأي صحراوي حجم التصحر في دواخلك، عندما تحاصرك الخضرة في كل زاوية وعندما تحيطك الجبال الشاهقة والقمم الرفيعة وهي مغلفة بهذا المد الشجري الأخضر الذي يغمر المكان فلا يدع فرصة لأي كمية تراب أو غمرة طين أو موجة غبار أن تقتحم هذا الخضار وهذا العشب وهذه الحياة العامرة بألوان الزهور المتلونة كيفما شاءت الألوان.
ليس غريبا أن يكون اللون الأخضر شعار الإسلام وأن يكون الخضار إحدى صفات الجنة، فما ذاك إلا لأن النفس البشرية نزاعة وميالة ومنحازة لهذا اللون ولهذه الطبيعة التي هي بعكس الطبيعة الصحراوية الصفراء الشاحبة، فالطبيعة الخضراء فيها تعبير عن الحياة والرواء والازدهار. فيما تعبر الصحراء برمالها عن شح المياه ونضوبها وعن قسوة الحياة وصعوبتها.
أقول هذا الكلام كله وقد تذكرت كلاما يردده العوام عندنا إما عن جهل أو حسرة، يندبون فيها حظهم في مآلهم الجغرافي فقد درج بعض الناس على إيراد: هذه جنتهم في الدنيا وهي كلمة عامية اتكأت بلا شك على نص الحديث النبوي الشريف الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ولكن ابتسار المعنى هو الذي جعل معنى الحديث يستخدم في غير سياقه الصحيح والذي يعني (أن المؤمن وإن كان فقيرا أو بلغ من الغنى ما بلغ فإنما دنياه كالسجن بالنسبة لما أعده الله له في الآخرة من نعيم مقيم، أما الكافر وإن كان غنيا أو فقيرا فإن دنياه كالجنة بالنسبة لما ينتظره في الآخرة من العذاب الأليم الدائم)، وواضح أن هذا المعنى يختلف تماما عن الاستخدام المبتذل والمفرط لجملة: (هذي جنتهم في الدنيا) وذلك كرد على كل من يثني على الطبيعة التي تغمر المدن الأوروبية أو غيرها من المدن العامرة بالخضرة والأزهار، وهم في هذا الكلام يصدرون بالتأكيد عن مغالطة وجهل، فحين خلق الله الأرض لم يقسمها بين البشر بحسب عقائدهم ومذاهبهم وإنما جعلها أرضا مشاعة تتوازعها الأنواء وتتباين فيها الأجواء بما يتوافر وينسجم مع كل الرغبات والمتطلبات، وقد توطن فيها البشر وانتشروا ثم رحلوا في سبيل البحث عن العيش وفي سبيل الفضول ورغبة الاكتشاف ودهشة المعرفة حتى صارت كل الكرة الأرضية جرما منتهكا ومكانا مشاعا ومساحة مأهولة ومعروفة لكل البشر بقاراتها وبحارها ويابستها، فلم يدع المكتشفون والمغامرون والرحالة مساحة بكرا لم يتم اكتشافها أو اقتحامها وقد صار حريا بكل كائن بشري أن يعرف المكان الأنسب دون سواه، لكن ربما أن قيود الدولة المدنية الحديثة صارت تحد قليلا من حرية الناس في اختيار المكان بوجود كثير من شروط الدولة المقيدة، لكن ـ مع كل ذلك ـ فإن المكان الأفضل والأخضر والأوفر ماء ونماء لا يبرر مقولة: هذه جنتهم في الدنيا، ولا يفترض إلا عن جهل مطبق أن كل القاطنين هذه المناطق هم من الكفار وأن الله – تعالى وتقدس - قد عاقب سكان الجزيرة العربية بهذا الطقس الحار ليعوضهم في أخراهم، ونحن نعلم أن كثيرا من المسلمين يقطنون هذه البلاد العامرة والغامرة بالأنهار والأشجار والثمار في شرق آسيا وبلاد الهند وغيرها كما أننا نعرف كثيرا من المدن الأوروبية مأهولة بقاطنيها من المسلمين بل نقرأ كثيرا من التقارير التي تتوقع مستقبلا أن سكان هذه المدن سيتحولون بعد سنوات قصيرة إلى أغلبية مسلمة وبالمقابل نجد رغبة التحول نتيجة الملل عند البعض ولهذا نلمس حب كثير من الأوروبيين لطقس الجزيرة والبلاد العربية بدفئه وإشراقه.
كنت أود أن أقول: إن مصدر هذا الكلام ربما هو نابع من شيء من الحسرة والحسد التي تفرزها النفس البشرية عندما لا يمكنها الحصول على الأفضل والأرغب، وإلا فإن من حق كل متذمر أن يغير من طبيعته ونمط حياته متى شاء لكن يمكن بالمقابل أن ندرك أن الصحبة والقرابة والمعرفة واللغة وكثيرا من المشتركات بين الناس هي التي تجعل الناس يتكيفون مع صعوبة حياتهم وقسوة ظروفهم المناخية سواء في الأجواء القائضة شديدة الحرارة التي لا مياه ولا مطر فيها أو تلك الأجواء الثلجية القارسة البرودة في القطبين الشمالي أو الجنوبي أو في شواهق الجبال الوعرة أو في الصحاري المقفرة. وبالتالي فلا معنى لتلك المقولة التي ترفضها المعرفة وتمجها الحقيقة الساطعة وهي أن الطبيعة الحسناء والخضرة الزاهية والأنهار المتدفقة والحضارة المتقدمة ليس لها مانع من الدين بل العكس هو الأصح والشواهد على كلامي كثيرة في القرآن الذي حث على الانتشار والسعي في أرض الله.. قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)، وفي هذا تعبير عن حرية التنقل والتحول وهجرة المكان إلى لا غيره.. كما في قوله تعالى: (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون).
الغريب أن بيننا من لا يؤمنون أو يتبنون عقيدتنا ويعيشون بيننا فلماذا حرموا أنفسهم من جنتي الدنيا والآخرة وهناك مسلمون كثر يعيشون في بلاد الخضرة والأنهار فهل من حقهم الجمع بين جنتي الدنيا والآخرة؟!! قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).