احتفلت مؤخراً شركة google بالذكرى 1147 لوفاة العالم المسلم أبو بكر الرازي، الملقب بأبي الكيمياء، والحقيقة أن محرك البحث الشهير يهتم دوماً بالعلماء والفلاسفة والفنانين وسواهم ممن أسهموا في تقدم البشرية ورقي الحياة الإنسانية.
هذا الحدث يعيد إلى الذهن أوج ازدهار الحضارة الإسلامية، التي كانت سائدة في شتى بقاع العالم نتيجة ممارسة الأنسنة التي تعني انفتاح الإنسان على أخيه الإنسان بغض النظر عن المسائل الضيقة للانتماءات الثقافية والجغرافية والعرقية.
ولهذا فإن بروز هذا الشكل الحضاري المسمى بـالأنسنة هو بالفعل على درجة من الأهمية، حيث تبرز أخوة الإنسان للإنسان وأهمية البناء المعرفي، وفي المقابل يعتبر الجهل بهذا المصطلح وأبعاده التاريخية والإنسانية والثقافية ذريعة لدى بعض البشر لتوهم احتكاره للحقيقة وامتلاكه زمام الأفضلية المطلقة بين البشر والأمم؛ مما يبعد الإنسان عن إنسانيته المفترضة تميزه عن بقية الكائنات الأرضية فهو يمتلك عقلاً يستطيع به أن يتحدى كل صعوبات الطبيعة، إلا أن عقبة تحقيق الإنسان لذاته جعلته يبتعد عن التصالح مع نفسه ومع أخيه الإنسان.
ويؤكد التاريخ الإسلامي على إسهامات المسلمين الفاعلة في الحضارة البشرية، انطلاقاً من الدين الإسلامي البنّاء، حيث تجاوز أزمة العلاقة مع الآخر خلال مراحل ازدهار الحضارة الإسلامية في المنطقة الجغرافية المعروفة اليوم بـالعالم الإسلامي حيث عُرف كثير من العلماء والأدباء والمثقفين آنذاك بتعايشهم وانفتاحهم على الثقافات الأخرى معتمدين على أهمية التراكم المعرفي من خلال الاطلاع على المنجزات والعلوم في الثقافات الأخرى والأخذ منها، ولا سيما حضارات الهند والفرس والإغريق بعلومها ومخترعاتها.
وكان كثير من العلماء والمفكرين يحظون بدعم الطبقة المخملية من الأمراء والسياسيين والتجارالمحبين للثقافة والمثقفين، مما فتح على يد النخب الثقافية شيوع النزعة الأنسنية مستفيدين مما كانت تضمه الدولة الإسلامية آنذاك من لغات وأعراق وثقافات متعددة وهذا ما أتاح أمام الناس فرصة للشراكة الاجتماعية والثقافية في ظل وجود أبناء طوائف وأديان أخرى منتمين للمسيحية واليهودية، أمثال إسحاق الإسرائيلي وموسى بن ميمون والكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم، إلا أن هذه التوجهات الإنسانية مع الأسف الشديد لم تستمر طويلاً نتيجة ظهور أشكال من الجهل والتعصب والعنصرية من جهة، وظهور الصراعات السياسية التي تحاول الإفادة من التقاطعات والاختلافات المذهبية والدينية والثقافية؛ مما أتاح شيوع ظاهرة احتكار الحقيقة الدينية - المضادة للعقل أصلاً - والمعتمدة على محاولة إلغاء النزعات الإنسانية وتحطيم الاتجاهات الثقافية.
وتعتمد فكرة الأنسنة على الفلسفة اعتماداً شبه كلي، لذا يمكن اعتبار الفلسفة مصدراً للأنسنة، بدءاً من الفلسفة اليونانية القديمة مروراً بعصر الفلسفة العربية الإسلامية، ثم عصري النهضة والتنوير في أوروبا، وانتهاءً بالفلاسفة والمفكرين في العصر الحديث؛ ففي كل تلك العصور كانت هناك محاولات عقلانية لأنسنة الثقافة البشرية بجعل الإنسان هدفاً للمعرفة، والعقل مقياساً دقيقاً للحاجات والقيم الإنسانية، ولكن لم يكن ممكناً تحقيق أهداف الأنسنة من دون الاهتمام بالفلسفة لأنها تعتبر حاجة اجتماعية ماسّة؛ فهي منهج عقلي منطقي لاستنطاق الأفكار، ومجال خصب للإبداع الفكري القائم على التأمل والتساؤل والنقد، مما يجعلها في قمة المشتركات الإنسانية التي يبحث فيها الإنسان عن إجابات لأسئلة قلقه تتعلق بالكون والإنسان والوجود.
ولذا برزت فكرة الأنسنة من خلال الفلسفة، ويمكن بها طرح صيغ بديلة للتواصل الإنساني، ولذلك ركّز كثيرون على فكرة الأنسنة دون ذكرها تحديداً كقضية إنسانية.
لكن تحقيق الأنسنة على مستوى الواقع يحتاج أولاً إلى وعي بالإنسان ووجوده، وإيماناً بحقه في أن يعيش حياة كريمة تواكب كل المتغيرات الإنسانية، ولذلك يحمل المثقف جزءاً كبيراً من المسؤولية-كما حملها أسلافه- كما أن للإعلام الحر مسؤولية أيضاً في تهيئة البيئة المناسبة لنمو بذور الأنسنة، التي قال عنها (إدوارد سعيد) إنها المقدرة على عزل المألوف عن غير المألوف، وفرز العادي عن الاستثنائي، ومقاومة الأفكار المسبقة، ومعارضة المقولات الجاهزة.
لذلك أعود إلى البدء، إلى العنوان أعلاه، حيث أردت أن أقول إن الأنسنة يمكن أن تكون طريقاً إنسانياً بديلاً للتسامح والتعددية والتعايش يوجد له جذور في ثقافتنا الإسلامية، ولكن علينا قبل التفكير بكيفية عبور هذا الطريق أن تكون لدينا الشجاعة للاقتراب منه لنلحق بركب الحضارة؛ في ظل طغيان الأيديولوجيات الدينية والسياسية على القيم الإنسانية مما حوّلها إلى قيم متسلطة لا تخدم الإنسان بقدر خدمتها لفئة أو تيار لديه توجه محدد؛ مما جعل جهود أسلافنا العلماء المسلمين في المجال الأنسُني تذهب أدراج الرياح نتيجة سيادة أنماط جديدة في الثقافة تحتقر الفعل الإنساني مهما كان كبيراً ومؤثراً، وها نحن ندفع الثمن من خلال علاقتنا ببعضنا من جهة وعلاقاتنا بالعالم الخارجي من جهة أخرى.