'هناك شباب وفتيات كانت لديهم الرغبة في القيام بأعمال تطوعية تكون واضحة الأهداف ملموسة الأثر، لكنهم كانوا يخافون أشياء كثيرة، أهمها حداثة التجربة، والفشل، وغياب المظلّة التي تعطيهم حريّة عملٍ مطلقة'!

تُحدّثني نفسي بعمل شيء للناس فلا أجد من يأخذ بيدي، ويدفعني إلى العمل!
في أوقات كثيرة أحتاج إلى قوّةٍ ما تدفعني إلى إحداث أثر في المجتمع، لكنني أصرف النظر عن بعض الأفكار خشية المساءلة!
كلّما هممتُ بتنفيذ فكرة ما في العمل التطوعي وبعد تجاوز عُقْدَتيّ الحياء والخوف يصدمني المتبرعون بمقولة: تحت أيّة مظلةٍ قانونيةٍ تعمل؟!
لا يحتاج الإنسان الذي يشعر بهموم الناس ومشكلاتهم إلى جهود كبيرة كي يتعرف على المستحقين الحقيقيين لهذه الجهود، لكنه يحتاج إلى صدفة ما كي تجعله قادراً على تقديم شيء!
لم تكن المقولات السابقة لي، لكنّها أفكار تعمر عقول كثير من شبابنا اليوم وربما الفتيات أيضاً، أعدتُ صياغةَ بعضها، وتقديمَ بعضها الآخر كما سمعته!
في حياتنا السابقة كان كلّ شيء يرتبط بالمساعدة والتطوع، لم تكن هناك ثقافة الدفع مقابل العمل، كان أفراد المجتمع الواحد يتعارفون على بدهيات الحياة وبقدر ما هم بشر يختلفون أكثر مما يتفقون إلاّ أنّهم يلتقون على المحبة والخير في المحصلة الأخيرة، فإن حدث طارئ هبوا بنفوس راضية ومحبة ليبذلوا ما عندهم، وإن جاء خير كان الفرح في جهاتهم لا يختبئ، بل يكون ظهوره حدثاً يشهده القريب والبعيد.
على قلب رجل واحد تبدأ الخطوات العملية لترميم ما فُقِد، أو إيجاد ما لم يكن موجوداً! لم يكن الرّجال وحدهم من يفعل ذلك، فقد كانت أيام الجُمَع في الغالب أياماً نسائية خالصة، تخرج فيها امرأة من كلّ بيت، لتفعل ما يفعله الرجال من مساعدة في ضائقة أو مشاركة في خلق فرح جديد، إلاّ أن مشاركتهنّ تكون أخفّ دفعاً، وأوثق صلة!
كلّ هذه المقدمة أسوقها والحماسة في داخلي تكاد تشتعل فتدفع بي إلى أملٍ لا تطفئه أزمة، وعمل تطوّعي لا يصدمه تصنيف اجتماعي لم يفق بعد من استلابه!
مصدر الحماسة أنني شرفت بالحديث مع شاب في الخامسة والعشرين من عمره وهو يروي لي قصته مع التطوّع إبان كارثة جدة 2009 بفرح لا يكاد يغيب عن ملامحه، كان يحدّثني عن الفكرة التي يقول إنها ليست له وحده، بل هناك شباب كثيرون وفتيات كانت لديهم الرغبة في القيام بأعمال تطوعية تكون واضحة الأهداف ملموسة الأثر، لكنهم كانوا يخافون أشياء كثيرة ـ بحسب قوله ـ أهمها حداثة التجربة، والفشل، وغياب المظلّة التي تعطيهم حريّة عملٍ مطلقة!
يقول (رياض): في اليوم الأول من كارثة جدة 2009 تجرأتُ وفتحتُ صفحة تطوعية على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك كان الهدف تنسيق الجهود، وتبادل الأفكار، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى غرفة عمليّات، وساحة مفتوحة لجلب المتطوعين، كان الإقبال على التطوّع من خلال الصفحة كبيراً، ومع ذلك كنتُ خائفاً!
لم تكن الأعداد الكبيرة من المتطوعين الفاعلين كافية لتمنحني شيئاً من الطمأنينة، لكنني دهشت من هذا الإقبال المتنامي، ربما كان هذا دافعاً لكنّني لم أستطع أن أتجاوز خوف المساءلة!
في فترةٍ وجيزةٍ برز لنا متطوعون في الإعلام والحقوق إلى جانب بروز أسماء كثيرة في العمل التطوعي الميداني.
يقول (رياض): كانت الحماسة وقودنا لخلق هذا الحراك الحضاري، لكنّ أشياء كثيرة في أرض الواقع كانت تنقصنا، لعلّ أهمها الجانب التنظيمي، وهذا ما ركّزت عليه صفحة الحملة التطوّعيّة على فيس بوك فيما بعد.
كارثةُ جدّة ليست وحدها من خلق هذا الحراك التطوّعي الشبابي، لكنّها ـ بطبيعة الحال ـ من ساهم في إبراز التطوّع، وتوسيع دائرته بعد أن كان مُحْتَكَراً لسنوات في جمعيّات خيريّة فقط، وتحسين بيئته بعد أن تعطّلت جهود كثيرة، وتطلعات شبابيّة لم تجد في الواقع ما يُفعّل طاقاتها، ويوجّهها إلى عمل!
كان الحديث عن التطوع جميلاً وممتعاً بالنسبة لي، وقد أحسست بأن فيلم (التطوع الأخير) كان قاسياً لعملٍ كان كثير من أفراد المجتمع يرقبونه من بعيد بإعجاب كبير، ويتمنون أن يكونوا شركاء فعليين فيه بجهودهم، ومعززين لتلك الأفكار الجميلة بآرائهم ومقترحاتهم، إلا أن ّنقد العمل التطوعي في نظر (رياض) أمر واجب، ولا يغضب من النقد إلا شخص لا يسعى إلى تطوير جهوده وتجديد أفكاره وتحديثها، لقد كان (التطوع الأخير) ـ كما يقول ـ محكّاً فعلياً لديمومة العمل، وصيرورته التي خلقت لنا المساحات الواسعة والفسيحة، كما ساعدتنا على تجاوز الأخطاء في تجربة أُوْلى بذاك الزخم، وتلك الأحداث الكبيرة والمتسارعة.
اليوم ـ بحسب رياض ـ لدينا في جدة وحدها ثلاثة مراكز تدرب الشباب وتستقبلهم، هناك شباب مكة وأكاديمية دلة للعمل التطوعي، ومؤسسة الملك خالد لقادة العمل التطوعي، فقد أصبحت هذه المراكز تمنح الفرص الكافية لبروز أفكار خلاقة لهذا الحراك المدني.. تتجاوز حاجز الخوف، والتخفي، والإقصاء، والانتقاء، وتتّجه إلى العمل في فضاء مفتوح، يستطيع الراغب التحليق فيه والعمل بحرية، شريطة أن تبقى الأوراق مكشوفة يطّلع عليها كلّ من داخله شك أو ساوره ظنّ!