لو تأملنا حياة الفلاسفة والمنظرين العرب القدامى الذين نقتات على إنتاجهم حتى يومنا هذا فسنجد أنهم يحيون لعلمهم فقط دون غيره، كل ناسك في صومعته مع تلاميذه ومريديه وكتبه لا يتحرك إلا بين المسطور والمنظور

لم يكن العربي في آخر قائمة المنجزين والمخترعين والعلماء إلا في هذا الزمان. وحين ألتقي بطلابي أو في مناقشات ندواتي ألقى نوعا من الإحباط والقنوط الذي يؤدي بدوره إلى ما أسميته في موسوعتى نقد النقد بثقافة الانسحاب أو ثقافة النزوح. ومما أدهشني في بحثي هذا أنني وجدت أن النظريات الغربية الحديثة التي أدهشتنا وسعينا لتطبيقها في ثقافتنا أنها غُزلت بخيوط من ثياب الفلاسفة المسلمين ـ أمثال الفارابي وابن رشد و ابن طباطبا وابن مسكويه وغيرهم كثر ـ بعد أن نُكثَ غزلها، ثم أُعيدت حياكتها في نظريات عالمية لدى كل من: جاك ديريدا وفوكو في مدرسة التفكيكية ولويس جولدمان و جورج لوكاتش وغيرهم، والمقال لا يتسع هنا لتبيان هذا الاحتكاك الذي هو أقرب إلى المطابقة، ولكن بغزل جديد لينتج لنا ثوبا جديدا قديمه هو ثوب الفلسفة العربية وروادها.
أين المنظرون العرب وأين النظريات العربية وأين الحراك الثقافي المفجر لهذا السكون المخيف؟ لم نر نظرية عربية ظهرت في محيط ثقافتنا منذ قرن من الزمان أو يزيد اللهم استنساخ تنظير غربي، هو في الأصل استنساح لتنظير عربي خالص، وحيثيات هذا القول مدون بالاستدلال المنطقي عبر بحث طويل استهلك ما يقرب من 1500 صفحة في الموسوعة سالفة الذكر. لم تظهر لنا نظرية عربية خالصة تنبع من صميم ثقافتنا نحن دون الاحتكاك بسياج غربي فرض أغلاله على الوعي العربي، لكي لا يبرز لدينا صاحب نظرية تذكر باسم صاحبها حينما تذكر فينضم إلى قائمة العلماء في العالم.
وحين أمعنت النظر في هذا الأمر وعقباته وجدت كثيرا من الأسباب التي تحد من عملية الإبداع والتخيل، والتخيل هو الجين الأول للإبداع والذي أطلق عليه الفلاسفة المسلمين بـالمتخيلة والمتخيلة أو ما أسماه علماء النفس بـالإطار المرجعي أو لوح النقش أو غير ذلك من الأسماء التي تدل على منطقة محاطة بأغلال لا يفك أسرها سوى المبدعين ممن أنعم الله عليهم بما يسمى الإلهام. ولي كتاب سيصدر قريبا في كيفية اقتحام هذا الكهف المسحور وكأن الجن تقف ببابه إن وفقنا الله عز وجل إلى ذلك.
ودائما يراودني سؤال محير وهو: هل يستطيع مبدعونا الصبر؟ لأن الصبر على العلم أهم ما في الأمور، فأغلب الباحثين والمنظرين في يومنا هذا يأكلهم الاستعجال كما تأكل النار الحطب. فإذا تأملنا حياة الفلاسفة والمنظرين العرب القدامى والذين نقتات على إنتاجهم حتى يومنا هذا سنجد أنهم يحيون لعلمهم فقط دون غيره، كل ناسك في صومعته مع تلاميذه ومريديه وكتبه لا يتحرك إلا بين المسطور والمنظور، كما أن للتأمل والعزلة شأنها في حياة المبدعين، فهل يجود زماننا هذا بشيء من الهدأة في ضوء عالم مزدحم مليء بكل التناقضات؟ بالرغم من أمواج المعلومات التي تجتاح شواطئنا فلا تدع للنوم سبيلا.
يقول الـشافعي حين سـئل عن طرائق المعرفة ومفاتيح كنوزها قال:
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان
ها هي أركان القلعة المسحورة يضعها الشافعي بين أيدينا لنتأمل كل كلمة فيها علها تقودنا لقدح ثقاب القريحة والموهبة، والولوج لكهف المعرفة لنرتشف من سلال عسل لن يتذوقه إلا من عرف. كما يقال: ذاق من عرف ومن حرم هلك.
قال الشافعي أولها ذكاء، أي إنه لا يأتى عالم بدون ذكاء، وكأنه شرطه الأول، وهذا مقبول، فلا مبدع أو عالم أو منظر إلا توفر فيه هذا الركن.. وأنا أجزم أن جل أبنائنا أذكياء لأنهم يحملون بداخلهم جينات علماء ارتكز الغرب على إبداعهم. ثم يأتي الركن الثاني وهو الحرص، وهو الحلقة الأضعف في يومنا هذا، وهو سبط من أسباط الصبر الذي ذكرته في بداية هذا المقال، والاجتهاد هو مواصلة الصبر وتحمل الصعاب في الوصول بدون كلل أو تسرع، وما أشد التسرع في سلوك مبدعي هذا الزمان والذي ينتج لنا كائنات مشوهة نتيجة ولادة غير مكتملة لجنين ربما لو استكمل مراحل نموه لأدهش العالم. أما صحبة الأستاذ فتلك مشكلة، إذ إن الأساتذة كسروا جسر التواصل والاحتضان، فأصبحت الغربة الثقافية والمعرفية سمة جيل يتلمس الطريق.
إن ما دعاني لكتابة هذا المقال هو مع الأسف خبر أن السعوديين أكسل خلق الله، وكلنا قرأنا هذا الخبر ومنا من حزن، ومنا من يعرف أنه نوع من الحقن تحت الجلد لبث نوع من الاستسلام وانفصام الذات والانكفاء عليها لأنه صدق ما يقال وما يقال مصدق، ولكننى لا أثق في إحصائيات لا نعرف كيف أجريت ومن وقف عليها.. وكيف أديرت ومن كلف بها.. وعلى من أجريت العينات؟! وكأننا نتعاطى الأخبار كجرعات الأنتي بيوتك دون مناقشة أو استقصاء. أبدا لم يكن شبابنا كسالى، إذا أتيحت لهم الظروف وكسرت أمامهم الحواجر التي سبق ذكرها. ثم إن الإحصائية تناقش الكسل الرياضي إذا تمعنا في الخبر وصياغته، إلا أننا نجد أن بعض الصحافيين وبعض المثقفين وأيضا القراء يسحبونه على كل مناشط الحياة. أبدا لم يكن العيب فينا وفي شبابنا بقدر ما كان العيب في قوة الحواجز.